IMLebanon

المغتربون بعيون الدولة: فلوس وأصوات انتخابية

كتبت ليا القزي في صحيفة “الأخبار”:

شهدت العلاقة بين لبنان والمغتربين، خلال ولاية وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، تطوراً مقارنةً بالعهود السابقة. إلا أنّ المؤتمرات والزيارات التي نُظمت، لم تؤدِّ إلى «نقلة نوعية» في هذا الملّف، وبقيت الأمور في إطار الشكليات. إلا أنّ المسؤولية لا تُلقى فقط على «الخارجية»، بل على الدولة مُجتمعة، التي لم تضع استراتيجية للاغتراب في سلّم أولوياتها.

تمكّن وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، منذ تسلمه حقيبته الوزارية، من خلق «جوّ» إيجابي مع المُغتربين اللبنانيين. تواصل، لقاءات، مؤتمرات… خطوات لعبت دوراً أساسياً في «العلاقة النفسية» معهم. «عجقة» لم تكن دوائر «الخارجية» مُعتادة عليها، وهذه نقطة يكاد يُجمع عليها جميع المعنيين بالملف الاغترابي. فالمدير العام السابق لمُديرية المغتربين، نائب رئيس حركة أمل هيثم جمعة، قال خلال تكريمه في وزارة الخارجية في تشرين الثاني 2017، بمناسبة تقاعده: «نشهد أنّكم (باسيل) من أكثر وزراء الخارجية حركة وديناميكية تجاه دول الاغتراب». ولكن، «بعيداً من فرحة المغتربين بوجود من قطع أميالاً ليسأل عنهم، لم تُترجم الخطوات بطريقة عملية في علاقة الاغتراب مع الوطن»، يقول دبلوماسيون.

بقيت الأمور في مُربّع «الواجبات الاجتماعية» والحركة الإعلامية، من دون التأسيس لمرحلة جديدة من العلاقة بين أبناء المهجر والوطن، لا على الصعيد الاقتصادي ولا السياسي ولا الاجتماعي. مسار العلاقة بين الفريقين، يوحي بأنّ «لبنان» ينظر إلى الساكنين خارجه، بوصفهم «خزنةً» أو «رافداً» انتخابياً. فهل يُمكن للمسؤولين أن يُسمّوا «إنجازاً» (إنجاز حقيقي وليس خطوات إعلامية أو ما يُدرج في خانة الواجبات) واحداً في ملّف الاغتراب؟ ماذا فعلت الدولة لحماية اللبنانيين في دول الخليج وأميركا الجنوبية من اعتداءات الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، و«فبركة» الملّفات لهم وسحب جنسية بعض تلك الدول منهم؟ لماذا توجد معايير مزدوجة، فيكون الاهتمام بقضية نزار زكا (المسجون في إيران) على أعلى المستويات، في وقت يتدنى إلى أدناها متابعة ملّف اعتقال ستة لبنانيين في الإمارات، ولا يعلم أحد أين أصبحت قضية رجل الأعمال قاسم تاج الدين الذي سلّمه المغرب (كان بلد المرور لتاج الدين أثناء سفره من أفريقيا إلى لبنان) للولايات المتحدة؟ هل من يُتابع ملّف جورج إبراهيم عبدالله في فرنسا، ويضغط من أجل إطلاقه بعدما أنهى كل محكومياته؟ السؤال في «الخارجية» عن ملّف الاعتقالات التي يواجهها بعض المغتربين، يقود إلى جواب: «ماذا نفعل أكثر من المراجعة؟ نحن لا نملك وسائل ضغط في الخارج، ولا يُمكن أن نستعدي الدول من جهة، ونستدين الأموال منه من جهة أخرى».

حسناً… ما هي السياسة الاقتصادية الموضوعة من أجل تشجيع الاستثمار، وأي قوانين ترعى أعمال المغتربين في وطنهم الأم؟ لماذا لا توجد مجموعات ضغط لبنانية في بلدان الاغتراب، تلعب دوراً على المستويات كافة، ويتم الاكتفاء بـ«لوبيات» للطوائف والأحزاب، التي لكل منها سياسة اغترابية؟ حتى الجامعة اللبنانية الثقافية، انقسمت قسمين، واحد «مسيحي» يميل إلى القوات اللبنانية، والثاني «شيعي» أقرب إلى حركة أمل، ولم تتوحد «شكلياً» إلّا في العام 2014.

يُطلب من المغتربين القدوم إلى البلد والاستثمار فيه والمُشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، من دون أدنى مسؤولية رسمية، بأنّ لهؤلاء أيضاً حقوقاً من الواجب تأمينها. أسباب العلّة عديدة، كغياب استراتيجية للدولة تجاه المغتربين، وشخصية بعض الدبلوماسيين غير المُتعاونين مع أبناء الجالية، وعدم فاعلية الإدارات المُختصة داخل وزارة الخارجية والجمعيات التي استُحدثت، على رغم تعدّدها: الجامعة اللبنانية الثقافية، مديرية المغتربين، مديرية الشؤون الاغترابية، جمعية الطاقة الاغترابية، والمجلس الوطني للاغتراب المنوي إنشاؤه…

مديرية المغتربين Vs مديرية الشؤون الاغترابية

قبل عام 2000، كانت للمغتربين وزارة، أُلغيت بموجب القرار 2000/247 القاضي بدمج وزارتَي الخارجية والمغتربين. وقد نصّ القرار على أن تُلحق المديرية العامة للمغتربين التابعة للوزارة الملغاة بوزارة الخارجية والمغتربين، فكانت النتيجة، أنّه أصبح هناك المديرية العامة للمغتربين (يُعين على رأسها مدير عام في الملاك الإداري بمرسوم يصدره مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين)، ومديرية الشؤون الاغترابية (التابعة لملاك وزارة الخارجية ويُعين فيها دبلوماسي). كان من المفترض، بعد دمج الوزارتين، أن يُنظر في هيكلة الوزارة، مع نظام داخلي جديد، ومن ضمنه دمج المديريتين. إلا أنّ منطق المُحاصصة الطائفية الذي يُسيّر الدولة (ينتمي المدير العام للمغتربين، عُرفاً، إلى الطائفة الشيعية)، قضى بالإبقاء على المُديريتين، على رغم صلاحياتهما المتداخلة. حاول باسيل إعادة تحريك الدمج، ولكن لأنّ الأمر أتى في سياق الخلاف السياسي بين التيار الوطني الحرّ وحركة أمل، جوبه بمعارضة قبل الشروع به.

مهمة مديرية الشؤون الاغترابية (ترأسها حالياً السفيرة فرح برّي)، توثيق الروابط بين الوطن والمغتربين وتنمية التعاون معهم في مختلف المجالات، وهي تقريباً المهام نفسها للمديرية العامة للمغتربين (المنصب شاغر منذ إحالة هيثم جمعة على التقاعد نهاية العام الماضي). أحد الإداريين يُحاول التفريق بينهما بالقول إنّ «لمديرية المغتربين استقلالية، إذ إنّ تواصل المُدير العام هو مُباشرةً مع الوزير، ولها ميزانية خاصة تبلغ قرابة المليارين ونصف المليار ليرة. وللمديرية دور سياسي على العكس من مديرية الشؤون الاغترابية التي يقتصر نطاق عملها على الجاليات والأحوال الشخصية والتواصل مع البعثات الدبلوماسية».

أكثر ما ساهم في «تشابك» المصالح، أنّ هيثم جمعة، طيلة فترة ولايته، كان مسؤولاً عن المديريتين معاً، فبات من الصعب التفريق بين صلاحيات كلّ منهما. بعد قرابة العشرين عاماً، بات جمعة «مرجعاً» في الملف الاغترابي. وعلى رغم أنّه كان «الحاكم بأمره»، وبإمكانه تحقيق الكثير من الإصلاحات، «بقي ملّف المغتربين هامشياً، ولم يُبادر أحد إلى وضع سياسة عامة لعلاقة الدولة بالمغتربين»، بحسب دبلوماسيين يلومون جمعة لأنّه «كان يهتم فقط بالمغتربين في أفريقيا». إلا أنّ إداريين آخرين ينفون ذلك، مُعتبرين أنّ مديرية المغتربين كانت «أول من نظّم مؤتمر رجال الأعمال في حزيران الـ2000، وأول مؤتمر للمغتربين في بيروت عام 2005 (علماً أنّ المؤتمرات كانت تُنظم أيضاً خلال ولاية الوزير جان عبيد بين الـ2003 والـ2004)، ونظّمت مُخيم شباب المغترب، وساهمت في إنشاء مجلس أمناء المغتربين العرب، وعزّزت العلاقة مع الدول حيث يوجد مغتربون». تُعدّد المصادر هذه المؤتمرات، مُحاولةً تصوير الأمر وكأنّ حاجات المغتربين تقتصر على هذه «الشكليات»، التي استُكملت خلال ولاية جبران باسيل مع جمعية الطاقة الاغترابية.

LDE تحلّ مكان «الخارجية»؟

بيان علم وخبر رقم 1035 بتأسيس جمعية «الطاقة اللبنانية الاغترابية» (LDE)، المنشور في الجريدة الرسمية في 24 أيار 2018، يشير إلى أنّ مركز الجمعية يقع في جلّ الديب (تشغل حالياً، ومجاناً، طابقاً في قصر بسترس في الأشرفية)، ولديها 10 غايات تتعلق بتعزيز التواصل بين المقيمين والمغتربين، إشراكهم في الحياة السياسية، إجراء مسح لهم، وتنظيم النشاطات والمؤتمرات… هي باختصار مهام الوزارة، التي جرى «تجييرها» لجمعية خاصة أسسها باسكال دحروج وزياد النجار وفادي الخوري وايلي الترك وجوزيف غصوب وأنطوان قسطنطين ورواد رزق… أي مستشارو باسيل.

مصادر في «الخارجية» تُبرّر بأنّ الـLDE أُنشئت «لأنّ الاغتراب كان مُهملاً، ومديرية المغتربين تهتم فقط بالمنتشرين في البلاد الأفريقية. وجد باسيل أنّ تفعيل العلاقة مع المغتربين، لن يكون ممكناً عبر المديرية، فأتت فكرة الـLDE». لماذا لم يتم اللجوء إلى تحسين العمل عبر المديرية الرسمية؟ تُجيب المصادر بأنّه «أردنا ذلك، ولكن فلنكن واقعيين، ونعترف بأنّ كلّ الأمور تتم عرقلتها في السياسة. أنشأنا جمعية الطاقة الاغترابية، وهي في النتيجة ستبقى تعمل في كنف الوزارة، أياً تكن هوية الوزير». افترض المعنيون في وزارة الخارجية، أنّ ولوجهم ملّف الاغتراب عبر المديرية المعنية، سيجابه بمعارضة و«عرقلة» من قبل حركة أمل.

كلام مصادر الوزارة، يتعارض مع رأي رئيس مركز الاستشارات القانونية والأبحاث والتوثيق (في حينه) السفير سعد زخيا (يرأس حالياً البعثة الدبلوماسية في دمشق). فقد وضع الأخير، بحسب المعلومات، ملاحظاته على طلب إنشاء الجمعية، «فوجدها مخالفة لقانون الوزارة». كما أنّ هيثم جمعة أعلن عدم جواز الموافقة على إنشاء الجمعية لأنها ستحلّ مكان الوزارة، وقد أرسل ملاحظاته إلى وزارة الداخلية، «لا سيّما أنّ الجمعية والوزارة تجاوزتا وجوب موافقة المدير العام للمغتربين على تأسيس الجمعيات». لم يلق كلام زخيا أو جمعة صدىً في «الخارجية»، واستمرت الجمعية في تنظيم المؤتمرات، إلى أن حلّ المؤتمر الثالث في أيار الـ2016، فأرسل جمعة كتاباً إلى باسيل يُخبره فيه أنّ الإعداد للمؤتمر من اختصاص مديرية المغتربين، بموجب المادة 13 من المرسوم رقم 4859. وأوضح جمعة في كتابه أنّ المعلومات المُرسلة من قبل البعثات في الخارج يجب أن تُستثمر في المديرية وليس من قبل جمعية خاصة توضع في تصرفها أوراق خاصة وتطلع على البيانات الخاصة بالاغتراب من دون صفة قانونية وتُسَخَّر لها إمكانات البعثات والدبلوماسيين. إضافةً إلى أنّ أعضاء الجمعية يترأسون اجتماعات للموظفين والدبلوماسيين، ويُكلفونهم بالمهام.

يقول دبلوماسيون شاركوا في المؤتمرات الاغترابية إنّ «فكرتها ممتازة لو طُورّت داخل الإطار الوزاري، وكان الدبلوماسيون في صلبها، وبقيت بعيدة عن الصراعات السياسية، كما حصل خلال مؤتمر أبيدجان، حيث قاطعت فئة من المغتربين المؤتمر». لم يتمكن المنظمون من تحصين المؤتمرات، حتى لا تٌصبح «أداة تعطيلية»، ومنبراً لـ«النكايات السياسية». يعتبر هؤلاء أنّ المؤتمرات تحولت «إلى مُجرّد لقاء لجمع أصحاب الثروات، يعود كلّ منهم إلى حياته، من دون النجاح في خلق روابط اقتصادية واجتماعية في ما بينهم». لم توضع سياسة اقتصادية لتسويق الإنتاج اللبناني في الخارج، وبيوت المغتربين في البترون التي قُدمت كإنجاز، «هي اليوم فارغة». بات المنظمون وكأنهم في سباق مع الوقت، «عجقة مؤتمرات تُنظّم على عجل، ولكن عملياً كثرة المؤتمرات كان لها مردود سلبي أدّى إلى غياب المتابعة، وخفّت حماسة المغتربين للمشاركة بها».

إلا أنّ لوزارة الخارجية والمغتربين، رأياً آخر. «نتائج الـLDE، ستظهر على المدى البعيد»، تقول المصادر، مؤكدة أنّ «السياسة التي اتبعناها هي الذهاب إلى المغتربين، وخلق تواصل عن قرب معهم. ليس بالأمر السهل، جمع آلاف اللبنانيين في مكان واحد، يتم خلاله عرض الأفكار وسُبل تفعيل التعاون». حتى على الصعيد الاقتصادي، «لقد ساهمنا في خلق صلة بين رجال الأعمال في الوطن وفي المهجر، وفي تعريف المغتربين على المنتجات المحلية وتأمين تسويقها إلى الخارج، وقد أتى تعيين ملحقين اقتصاديين للغاية نفسها».

مسؤولية الدولة مجتمعة

في تعدادها لـ«الإنجازات» التي قامت بها الدولة تجاه المغتربين، تذكر مصادر «الخارجية»، إقرار مجلس النواب لقانون استعادة الجنسية في 12 تشرين الثاني 2015. تقول إنّ «الوزارة والـLDE والمؤسسة المارونية للانتشار، لعبوا دوراً مهماً على هذا الصعيد»، علماً أنّ القانون لا تزال تعتريه شوائب عدّة، أبرزها أنّه لا يشمل المغتربين الذين هاجروا قبل العام 1921. الأمر الثاني، هو «التعيينات الدبلوماسية في كلّ البعثات، إذا ما استثنينا الكويت، وتعيينات القناصل والقناصل الفخريين». إلا أنّ ذلك، لا يمنع المصادر من «الاعتراف» بأنّ كلّ ما تحقّق، «أقلّ من 20٪ ممّا يُفترض بنا القيام به تجاه المغتربين». من يتحمّل المسؤولية؟ «الجميع، وتحديداً غياب سياسة من الدولة تجاه الانتشار». وهناك أيضاً، «عدم تسهيل بعض البعثات لطلبات المغتربين، ما يخلق نفوراً».

تجمع الدولة اللبنانية ما بين اللامبالاة تجاه المغتربين، وموقعها الضعيف أمام الدول الأخرى. الصراعات السياسية، انسحبت على النظرة إلى الاغتراب، ما أدّى إلى غياب أي رؤية أو سياسة تجاه هذه الفئة من اللبنانيين، التي ردّت على «الإهمال» بحقها، بامتناع نسبة كبيرة منها عن المشاركة في الانتخابات النيابية التي نُظمت في الخارج، على رغم أنّ من تسجّل منهم للاقتراع قام بذلك طوعاً.

خلق أُطر اغترابية جديدة

عوض أن يلجأ المسؤولون في وزارة الخارجية والمغتربين، إلى تعزيز الدوائر الموجودة والمعنية في الاغتراب، لجأوا إلى تشتيت الصلاحيات من خلال خلق أُطر جديدة. المجلس الوطني للاغتراب مثالٌ على ذلك، وقد قال عنه باسيل إنّ «أمامه طريقاً طويلاً لكي يُقرّ، إلا أنّه يؤطر العمل الرسمي الراعي للانتشار». لا تفاصيل بعد عن الفرق بين المجلس الوطني وبين مديرية الشؤون الاغترابية ومديرية المغتربين، والهدف من إنشائه. في هذا الوقت، حصلت جمعيتان جديدتان على علم وخبر لإنشائهما. الجمعية الأولى أسسها هيثم جمعة وعبد المولى الصلح وطوني منسّى، اسمها «المنتدى اللبناني للتنمية والهجرة». الهدف منها، ببساطة، حفاظ جمعة على النفوذ والعلاقات التي راكمها طيلة سنوات خدمته. الجمعية الثانية هي للرئيس السابق للمجلس الاغترابي اللبناني للأعمال أسامة طبارة، باسم «جمعية رجال الأعمال اللبنانيين المغتربين»، والتي لم يكن باسيل مُتحمساً لأن تنال العلم والخبر. ولكن، وبعد سنوات من الأخذ والردّ، أتت «المقايضة» على الموافقة على إنشاء الجمعيات: LDE، المنتدى اللبناني للتنمية والهجرة، ورجال الأعمال المغتربين، في الوقت نفسه.