كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
مَن يراقب المتغيّرات التي رافقت التدخّل الروسي في سوريا قبل ثلاث سنوات لا يحتاج الى جهدٍ كبير لقراءة التقلّبات التي أحدثها. وإن توقف أحدٌ عند استحقاقات ما بعد قمّة هلسنكي والمبادرة المعلّقة بالنازحين السوريين وصولاً الى المواجهة مع تل أبيب يمكنه فهمُ ما بلغه التصلّبُ الروسي وصولاً الى حديث عن “معادلة جديدة” قوامها: النازحون والأسد والإعمار في سلّة واحدة؟
تُجمع تقارير ديبلوماسية واردة من موسكو على إظهار حجم التصلب الروسي إزاء ما بلغته الأزمة السورية وتردّداتها في ساحات المنطقة والعالم على ضوء التطورات المتلاحقة التي أعقبت قمّة هلسنكي الأميركية ـ الروسية في 16 حزيران الماضي، وما تلاها من خطوات روسية متعثرة ابرزها الخطة الدولية التي وضعتها موسكو للنازحين السوريين ولحظت إعادة سبعة ملايين ونصف المليون نازح من 146 دولة في العالم بما فيها دول الجوار السوري وصولاً الى المواجهة الروسية ـ الإسرائيلية الأخيرة فوق البحر المتوسط.
وأفاد تقرير على جانب كبير من الأهمية أّنّ القيادة الروسية التي صُدمت بالتصرّف الإسرائيلي الذي أعقب الغارة على أحد مراكز الأبحاث وتجميع الأسلحة السورية في أطراف مدينة اللاذقية ليل 7 أيلول الماضيُ اضطُرّت الى إجراء اعادة نظر واسعة بالتفاهمات التي حكمت علاقتها بإسرائيل طوال السنوات السبع الماضية، وخصوصاً بالنسبة الى هامش الحركة الذي تمتّعت به تل أبيب في قصفها الأهداف العسكرية والتقنية ومراكز الدراسات العسكرية والكيماوية السورية والإيرانية وتلك التابعة لـ”حزب الله” على مساحة الأراضي السورية من دون استثناء بما فيها تلك الواقعة في المدى الحيوي للقواعد الروسية على الساحل السوري، وتحديداً في المجالين الجوي والبري لقاعدتي “حميميم” الجوية و”طرطوس” البحرية.
والى ردة الفعل الروسية التي لم تكن تتوقعها واشنطن وتل أبيب تحديداً، فقد أكّد الرئيس الروسي قدرته على تنفيذ قراراته مهما كان حجمُها ومداها بالسرعة القصوى التي لا تتمتع بها أيُّ إدارة أو دولة في العالم، فما أن أعلن في نهاية أيلول الماضي النّية لتعزيز قدرات سلاح الدفاع الجوي السوري بمنظومة “إس 300” حتى وصلت أربع منصات منها الى الأراضي السورية في خلال أقلّ من أسبوع. وكل ذلك تمّ في وقت كانت الإدارة الأميركية تُسدي النصحَ لنظيرتها الروسية بعدم الإقدام على هذه الخطوة التصعيدية واستبعاد تل أبيب إمكان بلوغ الرئيس الروسي هذا المدى في ردّ فعله على إسقاط الطائرة قبل أن تدّعي قدرتها على تجاوز قدرات المنصات الجديدة إذا قرّرت المضي في غاراتها على الأراضي السورية وتجاه أيِّ هدف تريده.
والى المعطيات العسكرية والديبلوماسية المحيطة بالخطوات الروسية التصعيدية التي أثار توقيتُها ردات فعل مستغرَبة، فهي بلغت الذروة تزامناً مع المساعي المبذولة عقب التفاهم الروسي ـ التركي على تجميد العمليات العسكرية في إدلب ومناطق أخرى غرب نهر الفرات. وهو تصعيد تمّ ربطُه بحادث إسقاط الطائرة “ايل 20” التي أنهت كثيراً من التفاهمات المعلنة وغير المعلنة بين روسيا وإسرائيل وأطراف في الحلف الدولي، وأجبرت موسكو على أداء عسكري جديد في الأزمة السورية لاسترجاع ما أصاب هيبتها في الداخل الروسي والخارج في مرحلةٍ ظهر فيها أنها الأقوى على الساحة السورية بعدما أعادت المناورات البحرية في شرق المتوسط ما افتقدته من موقع متقدّم في المنطقة.
والى هذه الوقائع يشير التقريرُ الديبلوماسي الى الحملة الديبلوماسية التي تستعدّ موسكو لإطلاقها قريباً توصّلاً الى مقاربة جديدة للأزمة السورية بجوانبها المختلفة الإنسانية منها والسياسية والعسكرية كما الإقتصادية واعادة الإعمار. وهو ما عبّرت عنه الديبلوماسية الروسية في حراكها الواسع في المنطقة والعالم.
وكشفت المعلومات أنّ الخطة الروسية تقول بثلاثة مسارات متزامنة ربطت بين خطة إعادة النازحين السوريين الى بلادهم في ظلّ القيادة السياسة الحالية السورية التي يترجمها بقاءُ الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، ومَن يتوافق مع الروس على هذين المبدأين سيكون الباب مفتوحاً امامه للمشاركة في عملية اعادة الإعمار التي قُدِّرت تكاليفُها المبدئية قبل الدخول في كثير من التفاصبيل بما يقارب 440 مليار دولار حسب آخر الدراسات التي وُضعت لإعادة إعمار القطاعات الإقتصادية وبناء ما دمّرته الحربُ في المدن والمناطق السورية.
وتأسيساً على هذه الثلاثية الجديدة، تتّجه موسكو الى مزيد من التشدّد في مفاوضاتها مع مختلف القوى الدولية والإقليمية، ومن هنا فُسِّرت اللهجة الروسية التصعيدية تجاه الوجود الأميركي في سوريا واعتباره قوة احتلال خارج كل المعايير الدولية، تزامناً مع اللغة عينها التي اعتمدتها إزاء إسرائيل لجهة دورها في الأزمة السورية وتماديها في شنّ الغارات الجوية في سوريا. وهو ما تُرجم تبريداً لها. فمنذ إسقاط الطائرة الروسية لم يُسجَّل أيُّ تحرّك للطائرات الإسرائيلية في اتّجاه سوريا بعدما انكفأت في تهديداتها في اتّجاه الساحة اللبنانية لملء الوقت الضائع الى حين تظهير قواعد السلوك الجديدة في سوريا، وهو أمر لا يمكن أحد التثبّت منه قبل معرفة ما ستؤول اليه المفاوضات الجارية بين تل أبيب وموسكو والتي لم تنتهِ الى خطوات واضحة ونهائية بعد بإعتراف الطرفين.
ولا بد من الاشارة الى أنّ جديد كل هذه التطوّرات بات رهناً بالتعهّدات التي قطعتها مختلف القوى المعنية بالأزمة السورية. فالتفاهمات التي عُقدت بين موسكو وأنقرة في شأن إدلب قيد التجربة في وقت تنتظر روسيا ردود الدول المعنية بملف النازحين في ضوء ما بلغته الترتيبات التي أجرتها مع المفوضية السامية للاجئين لتقديم المساعدة للنازحين في سوريا بدلاً منها في الدول المضيفة، وهو أمر تترقّبه موسكو في الأسابيع المقبلة بعد توجّهها الى الدول المانحة خارج أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وهو ما طرح سؤالاً وجيهاً: فهل تكتمل الأحلام الروسية في وقت قريب أم أنها مجرد اضغاث احلام؟