كتب احمد زين الدين في صحيفة “اللواء”:
في الحادي والعشرين من ايلول سنة 1943 اجتمع المجلس النيابي في جلسة عامة ترأسه أكبر الأعضاء سناً النائب جورج زوين وتغيّب عنها النواب: إميل إده، أسعد البستاني، جورج عقل، أحمد الحسيني، عبد الغني الخطيب، أيوب ثابت، كمال جنبلاط وجميل تلحوق. فتم انتخاب النائب صبري حمادة رئيساً للمجلس.
وفور انتخابه باشر الرئيس صبري حمادة عملية الانتخابات الرئاسية التي انحصرت بين الشيخ بشارة الخوري وأميل إده ففاز بها الرئيس بشارة الخوري الذي باشر استشاراته التقليدية لتشكيل حكومته الأولى التي اختار على الأثر لرئاستها طارئاً على نادي رؤساء الحكومات، هو رياض الصلح الذي ألف حكومته الأولى على النحو الآتي:
رياض الصلح: رئيس مجلس الوزراء، وزير المالية.
حبيب أبو شهلا: نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزير العدلية.
سليم تقلا: وزير الخارجية والاشغال العامة.
كميل شمعون: وزير الداخلية والبرق والبريد.
مجيد أرسلان: وزير الدفاع والزراعة والصحة.
عادل عسيران: وزير التموين والتجارة والصناعة.
فور تشكيل الحكومة، بدأ الاعداد للبيان الوزاري، للحكومة الاستقلالية التي طالبت فيه بتعديل الدستور واشترك في صياغته سليم تقلا وزير الخارجية في الحكومة الاستقلالية الاولى، ونهار الخميس في السابع من شهر تشرين الأوّل 1943 عقدت الجلسة التاريخية في المجلس النيابي في ساحة النجمة حيث أقبلت الجماهير على دار البرلمان وملأت ساحاته والشوارع.
وتلا الرئيس رياض الصلح بيان حكومته الوزاري، فنالت عليه ثقة شبه اجماعية، وأصبح البيان حديث كل ناد وعلى كل لسان، واجمعت الصحف على اطرائه ومدحه، وبدأت الحكومة بقوة وسرعة حسم، بمؤزارة من مجلس النواب، سلوك الطريق حتى النهاية، فألغت بعض احكام الدستور الني نصت أكثر من مرّة، على حق السلطة المنتدبة في المراقبة أو النقض وبرز الخلاف حول هذا الموضوع بين الحكم اللبناني الجديد والمندوب الفرنسي.
وقع بيان الحكومة الاستقلالية الأولى، على الفرنسيين، كان عميقاً جداً، وكان بينهم وفي مجالسهم موضوع حديث ونقاش، وبعضهم احصى كم مرّة وردت فيه لفظة الاستقلال فوجدوها سبعاً وثلاثين مرّة.
ولم يسكت الفرنسيون على البيان الوزاري، وبعد إلقاء رئيس الحكومة بيان حكومته بيومين تلقى كتاباً من السفير الفرنسي جاء فيه: «إن الحكومة اللبنانية تخالف صك الانتداب بإحلالها اللغة العربية محل اللغة الفرنسة وتخالف نصوص الدستور اللبناني، وان صك الانتداب لا يخول لبنان حق تعديل دستوره منفرداً». طلبت الحكومة من السفير ان يسترد كتابه فأبى، فكتبت إليه جواباً تقول فيه ان الانتداب غير قائم وتثبت حقها كحكومة دستورية لدولة مستقلة في عمل ما عملته خصوصاً بشأن إحلال اللغة العربية محل اللغة الفرنسية وفي تحقيق ما وعدت به بشأن الدستور، وسافر سفير فرنسا إلى الجزائر، ولبثت الحكومة تنتظر عودته، وإذا كان قد: «اتفق على موعد عقد جلسة تعديل الدستور مع غياب السيّد هللو ممثّل فرنسا الذي كان قد قصد مدينة الجزائر ليطلع رئيسه الجنرال ديغول على ما قد عزمنا عليه من أمر تعديل الدستور». غير ان المجلس النيابي ورئيسه لم يستطيعا كتمان ما كان بين الحكومة وسلطات الانتداب، وخصوصاً ان التطورات تجري متسارعة، وبعد الإعلان البريطاني انه لا يمكن إزالة الانتداب، صار النواب يلحون بإحالة التعديلات الدستورية إلى المجلس.
أخذ القلق يساور اللبنانيين، بعد ان انتشرت أحاديث تقول ان الفرنسيين لن يسلموا للبنان شيئاً مما طلب. وبينما هم يلحون على حكومتهم بأن تصارحهم وتطلعهم على ما جرى إذا بنبأ من لندن يقع عليهم وقع الماء البارد في أيام الشتاء. ولكن اعقبه ردّ فعل طبيعي، ما لبث ان ألهب نفوسهم غيظاً. لقد صرّح الوزيرالبريطاني «ردشاردلو» في مجلس العموم البريطاني رداً على سؤال طُرح عليه بشأن الانتداب في سوريا ولبنان وجاء النص العربي لهذا التصريح يقول انه لا يمكن إزالة الانتداب فنياً.
ورأت الحكومة ان خير ردّ هو ان تهمل الرد، وأن تمضي في خطتها كأن شيئاً لم يكن. أما الشعب والمجلس فقد زادت حاجتهما الى معرفة ما فعلت الحكومة وما تنوي ان تفعل، فنزلت عند هذه الرغبة وأدلت يوم الخميس في الثامن والعشرين من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) 1943 ببيان أوضحت فيه ما كان بينها وبين السفير الفرنسي بشأن المصالح المشتركة، وكررت وعدها بإحالة مشروع تعديل الدستور الى المجلس عن قريب.
وفي صباح الجمعة 5 تشرين الثاني (نوفمبر) تلقى الصحافيون اللبنانيون دعوة من دائرة المطبوعات في المندوبية الفرنسية موعدها الساعة الثانية عشرة ظهراً، فلبوها، فإذا هم مدعوون لسماع بلاغ ارسلته اللجنة الفرنسية بمدينة الجزائر عن طريق البرق إلى المندوب العام بالوكالة ينكر على اللبنانيين الحق في تعديل دستورهم منفردين. وقد طُلب إلى الصحفيين نشره دون مناقشته في ذلك الاجتماع أو على صفحات جرائدهم.
وفي الساعة الثانية عشرة والنصف أيضاً كان السيّد دافيد المندوب الفرنسي لدى الحكومة اللبنانية في سراي البرج حاملاً إلى رئيس الحكومة نص البلاغ الذي أصدرته اللجنة الفرنسية في الجزائر.
إذاً، لقد ذهب التحدي الفرنسي إلى نهايته، فاجتمع رئيس الحكومة إلى رئيس الجمهورية وأبلغه التحدي الفرنسي فدعي مجلس الوزراء فوراً إلى الاجتماع، حيث اتخذ قرار إحالة مشروع تعديل الدستور فوراً إلى مجلس النواب مساءً، وحضر رئيس المجلس صبري حمادة إلى مكتب رئيس الحكومة وأعلن ان المجلس على اتم الاستعداد لإقرار التعديلات الدستورية، ودعا النواب إلى الاجتماع الاثنين في الثامن من تشرين الثاني 1943.
وفيما يلي بيان مجلس الوزراء الذي أحيل إلى مجلس النواب:
«اجتمع مجلس الوزراء الساعة الواحدة من يوم الجمعة الواقع في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1943 واطلع على البلاغ الذي أصدرته المندوبية العامة ووزعته على الصحف في ذات الوقت الذي كان دافيد يطلع رئيس الوزراء على نصه ويقدم له صورة عنه.
ولما كان مجلس الوزراء يعتبر ان تعديل الدستور حق من حقوق السلطات الدستورية اللبنانية وفقاً لاحكام المادة 76 وما يليها من الدستور فلقد قدمت الحكومة عندها إلى المجلس النيابي مشروع تعديل الدستور في بعض مواده التي تتعارض مع استقلال لبنان التام المعترف به، ذلك المشروع الذي كان مجلس الوزراء قد باشر درسه عملاً بالبيان الوزاري وتأميناً لتنفيذ الاستقلال بصورة عملية».
بعد دعوة الرئيس صبري حمادة المجلس النيابي إلى جلسة عامة، أخذت التطورات تجري متسارعة في الايام الثلاثة الفاصلة عن الجلسة، وصار الفرنسيون يرسلون مندوبيهم ليطلبوا من الحكومة ان تسترد المشروع من المجلس. واختاروا لهذه المهمة رجالاً منهم لهم صلة مودة سابقة برئيس الجمهورية أو بأعضاء الحكومة وما سلفت منهم إساءة إلى هؤلاء الرجال كـ«بار» و«دافيد» ومن إليهما. وبذل هؤلاء الرسل كما بذل المندوب بالوكالة ايفاشاتينو جهوداً كثيرة لاقناع رئيس الجمهورية والحكومة ولكنهم اخفقوا. واستدعي مستشارو المحافظات الفرنسيون إلى بيروت لمساعدة المندوبية على النواب واقناعهم برفض التعديل متوسلين الى ذلك بشتى وسائل الترغيب والترهيب. وأصبح كل ما يطمع فيه القوم تعطيل الجلسة بشكل ما، وحصروا جهودهم كلها بإقناع سبعة عشر نائباً من ثلاثة وخمسين يتألف منهم المجلس بأن يتغيبوا عن جلسة التعديل لأن غياب السبعة عشر يجعل العدد غير كاف لتعديل الدستور الذي يشترط لتعديله موافقة ثلثي أعضاء المجلس. واستعانوا بالنواب المعارضين المنتسبين إلى اميل إده ولكن أكثر هؤلاء لم يقبلوا. وقد كان هذا آخر سهم في جعبة الإقناع.
وفعلاً، اجتمع في مكتب اميل إده في اليوم السابق لجلسة التعديل اثنا عشر نائباً منهم: جورج زوين، جورج عقل، أسعد البستاني، جميل تلحوق، أمين السعد، احمد الحسيني، كمال جنبلاط، عبد الغني الخطيب، جبرايل المرّ، وديع الأشقر. وتلفن إده بعد حضورهم إلى مدير الأمن العام غوتييه يقول له: «إن الجماعة حضروا» فما لبث ان وصل وأعلن لهم ان المطلوب منهم ان يغيبوا عن جلسة الغد وإن خطته ان يقنع ستة آخرين ليحول دون اجتماع الأكثرية القانونية لتعديل الدستور فيحبط بذلك المشروع. ودارت مناقشة بينه وبين معظمهم، فإذا هم يرفضون الطلب ويبلغونه انهم سيحضرون الجلسة ويقرون التعديل برغم التهديد وبرغم قوله ان صداقة فرنسا وكرامة فرنسا وكيان فرنسا كل هذا معلق على حضورهم أو عدمه. وكانت خيبة مدير الأمن العام وصديقه الحميم إده فاجعة لهما.
صباح يوم الاثنين في الثامن من تشرين الثاني، بلغ التوتر ذروته، وأخذ الفرنسيون يشنون حرب اعصاب شديدة، فأعلنوا عن عزمهم حل المجلس النيابي.
وكان ردّ الرؤساء الخوري والصلح وحمادة والعديد من الوزراء والنواب بأن ذلك ليس من حق السلطات الفرنسية، وتابع الرئيس حمادة نشاطه واتصالاته مع جميع النواب، ومع رئيسي الجمهورية والحكومة اللذين ابلغهما ان المجلس وضع يده على مشروع التعديلات الدستورية، وانه سيسير بمهمته حتى النهاية.
وكان هذا الموقف أبلغ جواب على التهويل الفرنسي بحل المجلس النيابي.
وهنا عادت المندوبية الفرنسية لتضغط على الحكومة، فأبلغت الحكومة برقية من هللو ارسلها من القاهرة بعد وصوله إليها من الجزائر عائداً إلى بيروت، سائلاً رياض الصلح ان يرجئ انعقاد جلسة المجلس إلى ان يعود، يوم الخميس 11 تشرين الثاني (نوفمبر) ريثما يكون قد وصل هللو الذي يحمل من اللجنة الفرنسية حلولاً سخية.
فرفض رئيس الحكومة ان يتبلغ مثل هذه المذكرة لما فيها من تحكم وافتئات على سيادة لبنان، وانعقد مجلس الوزراء على الأثر فقرر ان الحكومة لا ترجع عن مشروعها معلنة ان بت الأمر في هذه المسألة صار للمجلس النيابي وحده، وقد أبلغ هذا القرار إلى الفرنسيين عند الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الثامن من تشرين الثاني، أي قبيل دقائق من انعقاد الجلسة التاريخية.
صباح يوم الاثنين الثامن من تشرين الثاني بدأت الاتصالات سريعة ففيما كان الفرنسيون يقومون بالاتصالات المختلفة لثني المجلس النيابي عن متابعة خطواته، كان رئيس مجلس النواب بعيداً عن كل هذه الاتصالات يتابع بدقة اتصالاته مع النواب للجلسة الموعودة، مع فجر ذاك اليوم كان بعض النواب المعارضين مجتمعين مع مدير الأمن العام الفرنسي المسيو غوتيه في مكتب اميل إده، يتباحثون في تعطيل نصاب جلسة المجلس النيابي، وبلغ من غوتيه انه أراد ان يمنعهم من مغادرة المكتب عند الظهر، مبشراً إياهم بإنقلاب الحال ومنذراً المترددين منهم بسوء المصير والعاقبة، في ذلك الوقت عينه جاء المندوب الفرنسي المسيو دايفيد ليقابل الرئيس بشارة الخوري ويطلب إليه باسم المندوب السامي المسيو هللو – الذي وصل إلى القاهرة واتصل بدايفيد تليفونياً – ارجاء الجلسة ولو أربع وعشرين ساعة، ليتمكن المندوب السامي من الوصول إلى بيروت حاملاً، على زعمه، عروضاً واسعة مقبولة من الجنرال ديغول، وكان الوقت قد قارب الظهر، فوعد الرئيس بشارة الخوري بمشاورة الحكومة وإعطاء الجواب في الساعة الثانية بعد الظهر. وصل دايفيد في الموعد واستقبله رئيس الجمهورية بحضور رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح. حيث ابلغاه انه لا يمكن ارجاء الجلسة دقيقة واحدة.
عند الساعة الثالثة من بعد ظهر ذاك اليوم عقدت الجلسة التاريخية، وسط جو بلغ فيه توتر الأعصاب اشده، حيث وفدت الجماهير إلى البرلمان واحتلت ساحاته وسدت المنافذ إليه واخذت تفجر كل ما في نفوسها من وطنية وحماسة وترسل شعورها الثائر في هتافاتها. في هذا الجو دخل النواب وأعضاء الحكومة، وفيما رئيس الحكومة على عتبة المجلس تقدّم إليه القومندان Jean le cerf وسلمه رسالة ففضها فاذا بها وساطة لتأجيل الجلسة.
حضر الجلسة 52 نائباً من أصل خمسة وخمسين نائباً. وكان الغائبون أيوب ثابت وأحمد الحسيني وموسيس در كلوسيان وقد تغيبوا عمداً.
وافتتح رئيس المجلس صبري حمادة الجلسة التاريخية، فكانت آخر محاولة لعرقلة التعديل تجري داخل المجلس. ذلك ان بعض النواب طلبوا ان يحال المشروع إلى لجنة خاصة ليتوصلوا بذلك إلى تأجيل إقرار التعديل، ولكن المحاولة الأخيرة اخفقت كالاولى. وخرج اميل إده عند ذلك منسحباً وتبعه امين السعد فأقر المجلس التعديل بنداً بنداً بالإجماع، ولم يتركه الا وقد حرره من قيود الانتداب. وفي تلك اللحظة هب واقفاً كل من في القاعة هبة آلية وارتجت اركانها وجدرانها بالهتاف والتصفيق ارتجاجاً.
ودخل يوم الاثنين 8 تشرين الثاني 1943 في التاريخ.
إن هذا الأمر الهام والكبير لن يجعله الفرنسيون يمر مرور الكرام، لهذا كان هم الرئيس حمادة ان يحفظ محاضر الجلسة التاريخية والمصيرية عن عيون وايدي السلطات الفرنسية، ويقول الرئيس صبري حمادة هنا: «وفي الوقت المعين وعلى غير ما أراد الفرنسيون انعقدت الجلسة التاريخية التي تمّ فيها تعديل الدستور، والتي حملت بعد ارفضاضها المحاضر إلى مكان كنت واثقاً من ان الفرنسيين لن يخطر لهم فكرة تفتيشه، حملت محاضر الجلسة واخفيتها في مكان ما من كنيسة الآباء الكبوشيين في محلة باب ادريس».
عدل الدستور وتبلغت الحكومة القانون، حانت ساعة النشر، فطلب المندوب الفرنسي من الرئيس بشارة الخوري أن يؤخر النشر ريثما يصل هللو، فرفض الرئيس ذلك، ثم وقع القانون ونشر فوراً في الجريدة الرسمية وأصبح معمولاً به ابتداءً من يوم الثلاثاء في 9 تشرين الثاني 1943.
يوم الثلاثاء في التاسع من تشرين الثاني وصل هللو إلى بيروت قادماً من الجزائر بعد ان تفاهم مع اللجنة الفرنسية على الموقف الواجب اتخاذه بعد تعديل الدستور، وفور وصوله جمع هللو معاونيه وأنبهم تأنيباً شديداً لأنهم لم يحاولوا بأي طريقة دون تعديل اللبنانيين لدستورهم.
يوم الأربعاء في 10 تشرين الثاني سنة 1943، عينت الحكومة اللبنانية الكولونيل سليمان نوفل قائداً أعلى لقوى الأمن الداخلي والكولونيل نور الدين الرفاعي مديراً للشرطة.
وصادف ان كان الملك بطرس ملك يوغوسلافيا مدعواً إلى العشاء إلى مائدة الجنرال سبيرز وزير بريطانيا المفوض في لبنان مساءً ذلك اليوم نفسه. وكان السفير الفرنسي جان هللو وسليم تقلا وزير الخارجية اللبنانية مدعوين أيضاً إلى هذه المأدبة. التي نفى هللو خلالها نفياً جازماً الشائعات الرائجة عن إمكانية قيام عدوان من فرنسا، واقسم بشرفه وشرف فرنسا انه لن يقوم بأي عمل عدائي نحو السلطات اللبنانية، وانه بالعكس يقدس الحريات وسيسعى جهده لإزالة العقبات القائمة بين البلدين بالاساليب الدبلوماسية الشريفة.
كانت الساعة قد بلغت الواحدة والنصف من صباح يوم الخميس، عندما قام سليم تقلا مودعاً الجنرال سبيرز، وذهب تواً إلى منزل الرئيس بشارة الخوري حيث ردد على مسامعه اقوال هللو وطمأنه إلى قسمه بشرف فرنسا. وهكذا نام الجميع وهم على اطمئنان من وعود وعهود ممثّل فرنسا ليستفيقوا بعد ساعات قليلة على صوت بنادق الجند الفرنسيين وطقطقة حربات السنغاليين وقد جاءوا يعتقلون قادة الدولة ليل 10/11 تشرين الثاني فاعتقل الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح والوزراء عادل عسيران، كميل شمعون، سليم تقلا والنائب عبد الحميد كرامي كل في بيته بعد ترويع العائلات، كما علقوا الدستور ونزعوا سلطات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وعطلوا الحياة النيابية واقاموا نظام حكم على رأسه رئيس دولة وحكومة عينهما المندوب الفرنسي، وبموجبه عينوا اميل إده رئيساً للدولة ورئيساً للحكومة.
حاول اميل إده تأليف حكومة جديدة فنزل إلى سراي البرج بسيارته وكان إلى جانبه الكولونيل سليمان نوفل، وبدأ اتصالات بالنواب وبغير النواب من الشخصيات فلم يفلح، فما كان منه الا ان شكل حكومة من المديرين الذين رفض معظمهم التعاون مع إده، والرافضون هم: جوزيف شمعون مدير المعارف، اشرف الاحدب مدير الاشغال، اندريه التويني مدير التموين، راشد طبارة مدير التجارة والصناعة، وحليم نجار مدير الزراعة.
وعند الساعة السادسة من صباح 11 تشرين الثاني سنة 1943 حضر نور الدين الرفاعي مدير الشرطة العام إلى منزل الرئيس حمادة وقال له: ان الكولونيل سليمان نوفل قائد قوى الأمن العام الداخلي (الدرك والشرطة) قد أوفدني اليكم، لإنبئكم باعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وفريق من الوزراء، ولأقول لكم انه يعتبركم ممثّل السلطة الوحيد في غياب رئيس الدولة والحكومة وهو ينتظر أوامركم، فأجابه رئيس المجلس: أبلغ الكولونيل نوفل انني ذاهب من فوري إلى منزل رئيس الجمهورية ثم إلى دار البرلمان وسأبلغه اوامري بعد فترة وجيزة. وبالواقع فإنه في الساعة الخامسة والنصف من صباح 11 تشرين الثاني، يوم الاعتقال، كان الكولونيل نوفل نائماً في بيته عندما ايقظته زوجته قائلة: الباب سوف ينكسر من شدّة الضرب عليه فقام الكولونيل وفتح الباب فوجد عارف إبراهيم معاون مدير الشرطة مضطرباً وأخبره بالحادث الخطير، ولما أراد الكولونيل الاتصال بقيادة الدرك وجد التلفون مقطوعاً فأرسل عارف إبراهيم الى السراي ثم ذهب إلى هناك وأعطى أوامره ووزع السلاح على الجند ثم ارسل نور الدين الرفاعي ليعلم الرئيس صبري حمادة ان نوفل ينتظر أوامره كما سبقت الإشارة. وبعدئذ استدعاه رئيس أركان حرب القيادة الفرنسية الى غرفة بوغنر وقال له: اتريد ان تطيعنا أم لا؟
فأجابه نوفل: انني عسكري أولاً، وإذا كانت الأوامر لا تتعدّى مهمتي فأنا مجبر على تنفيذها فقال رئيس أركان الحرب: انني اصادرك! فأجاب نوفل: انا انفذ أمر المصادرة. وبعد الجلسة الخاطفة اختلى به رئيس الغرفة السياسية المسيو بوغنر واخبره ان الأوامر كانت صادرة بتوقيفه ولكن رئيس أركان الحرب قد شفع به. لذلك رجاه ان لا يخالف القوانين وان يقوم بمهمته العسكرية المطلوبة منه. فأجاب نوفل: إن الدرك والبوليس تحت تصرفي وأنا أرفض استعمالهما لأي هدف سياسي. وان مهمتي هي المحافظة على النظام فقط.
فقال: يجب عليك ان ترافق الرئيس إده وتطيع أوامره.
توجه الرئيس صبري حمادة إلى منزل رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري لزيارة قرينته السيدة لور، فوجد هناك حبيب أبو شهلا نائب رئيس الوزراء ووزير العدلية والتربية الوطنية، الأمير مجيد أرسلان وزير الدفاع الوطني والزراعة والصحة والاسعاف العام والنواب: مارون كنعان، رشيد بيضون، صائب سلام ومحمد الفضل، والجميع كان مقبلاً على السيدة لور لمعرفة تفاصيل اعتقال رئيس الجمهورية، إضافة إلى جمهور غفير من النّاس الذي لم يقف تدفقه وهو يهتف بحياة المعتقلين وبعودة الزعماء وخرج رئيس مجلس النواب ومعه النواب والوزيران أبو شهلا وارسلان الى الجمهور. فبدأ الوزير ابو شهلا في إلقاء خطاب على الجماهير المحتشدة، فيما انسحب الرئيس حمادة ومعه النواب إلى إحدى الغرف في منزل الرئيس الخوري، وبعد انتهاء أبو شهلاء من خطابه التحق والوزير ارسلان برئيس المجلس، حيث عقد اجتماع وضعت فيه خطة العمل المشتركة.
في ذاك الاجتماع تقرر ان تمضي الهيئتان التشريعية والتنفيذية في عملهما، وان يقوم مجلس الوزراء مقام رئيس الجمهورية المعتقل، عملاً بالمادة الثانية والستين من الدستور، وان يضطلع الوزيران الطليقان وكالة بأعباء الوزارات التي اعتقل وزراؤها، كما تقرر ان تقود الحكومة الشرعية الشعب اللبناني في جهاده، وتخابر باسمه الدول العربية والأمم الديمقراطية.
ونشط المجتمعون إلى العمل حالاً على تنفيذ القرارات الخطيرة التي اتخذت في ذلك الاجتماع، فانصرف أبو شهلا إلى وضع صيغة المرسوم وإلى كتابة مذكرة احتجاج شديدة الى سفير فرنسا، جان هللو، ومذكرات أخرى إلى ممثلي دول الأمم المتحدة والاقطار العربية الشقيقة. وغادر رئيس المجلس وزملاؤه النواب منزل رئيس الجمهورية قاصدين مبنى البرلمان، فبلغوه في الساعة السابعة والنصف ووجدوا أمين سر المجلس العام وبعض موظفي المجلس في انتظارهم هناك.
ولاحظ الرئيس صبري حمادة عدم وجود أفراد القوة التي تحافظ عادة على مبنى مجلس النواب، فاستدعى إليه قائد قوة شرطة المجلس حليم غرغور الذي كان حاضراً فكلفه الرئيس ان يتصل بمدير الشرطة العام ويطلب إليه إيفاد خمسة عشر شرطياً إلى المجلس، فذهب غرغور بنفسه إلى مدير الشرطة وابلغه الامر ثم عاد بعد هنيهة ليعلم رئيس المجلس ان مدير الشرطة اتصل بالكولونيل نوفل وابلغه أمر الرئيس فطلب الكولونيل أمراً خطياً، فكتب الرئيس حمادة امراً خطياً، حمله الى مدير الشرطة رسول خاص، فلا الرسول عاد، ولا رجال الشرطة وصولا، وبالتالي ظل المجلس بلا حماية.
ويؤكد الرئيس حمادة في هذا الصدد، انه في تلك اللحظة قرّر ان يكون لمجلس النواب شرطته المستقلة التي ترتبط مباشرة برئيس المجلس وتتلقى الأوامر منه.