كتب ربيع ياسين في صحيفة “المستقبل”:
“لا أريد أكثرمن حياة تليق بالحياة.. لديّ ثلاث أولاد يعانون من مرض الهيموفيليا وتكلفة علاج كل واحد منهم تتجاوز الـ مليون و200 ألف ليرة لبنانية.. لا أستطيع استئجار منزل صغير يضمني مع عائلتي لأنني سأعجز عن تأمين الدواء لأولادي. نعيش مع أهلي في بيت متواضع وانتظر الفرج….”.
إنها ليست معاناة مواطنة لبنانية فحسب، إنما معاناة روضة طراد معلمة لغة فرنسية متعاقدة في التعليم الأساسي في منطقة الضنية.. تتساءل عبر «المستقبل» «هل هكذا تتم مكافأة من أمضى 20 عاماً متعاقداً في التعليم؟». تضيف: «أمضينا حياتنا في التعليم، تحملنا ما لا يُطاق من أجل هذه الرسالة السامية، وبذلنا الغالي والرخيص لمساعدة الطلاب أولاً ولرفع شأن المدرسة الرسمية ثانياً. أهكذا يكون جزاؤنا؟».
تختم روضة حديثها بمناشدة المعنيين التحرك لتثبيت المتعاقدين القدامى من أجل الاستفادة من الضمان الاجتماعي خصوصاً من هم في حالتها..
أزمة المتعاقدين في التعليم الأساسي لا تقتصر على القدامى فقط، إنما تطال فئة الشباب أيضاً. فعلي فخر الدين أستاذ رياضيات متعاقد يقول لـ«المستقبل»: «أسوأ ما يعيشه الشاب في عزَ عطائه أن يكون محبطاً لا يستطيع أن يحلم بغد أفضل». يضيف «لدي ثلاث شهادات إلا أن المعنيين لم ينصفونني.. أنا في العقد الثالث من العمر ولا أستطيع حتى التفكير بالزواج، فكيف يتزوج الشاب وهو لا يملك مدخولاً شهرياً؟ فهل يعقل أن يعمل الأستاذ ولا يتقاضى راتبه كل آخر شهر؟».
يتابع فخر الدين: «نحن نعمل اليوم من دون ضمانات، فبأي لحظة يمكن للدولة أن تفسخ عقد عملنا. نحن نشعر اليوم بذل كبير فقط لمجرد أننا نُطالب بأبسط حقوقنا.. لذلك نلجأ إلى الشارع إالى المسؤولين علنا نجد من يسمع صوتنا وينصفنا».
علي يُطالب الدولة بالوقوف إلى جانب مطالبهم المُحقة من أجل حياة كريمة، كون التعليم رسالة بالدرجة الأولى، والنظر بجدية إلى موضوع التعاقد الذي برأيه هو بدعة من أجل تخفيف الميزانية على الدولة.. «ونطالبهم اليوم بتثبيتنا عبر إجراء مباراة محصورة للمتعاقدين فقط، ومعاملتنا كأي موظف دولة يقبض راتبه كل شهر وبذلك نستطيع تحريك العجلة الاقتصادية..».
حماده
يحاول وزير التربية والتعليم في حكومة تصريف الأعمال مروان حماده أن يجد حلاً للمتعاقدين منذ أن تسلم الوزراة. يقول لـ«المستقبل»: «إرث المتعاقدين موروث من نصف قرن تقريباً. من كان يتولى وزارة التربية سابقاً لم يُقصر بالتعاقد إما بحجج مباشرة أو بحجة النازحين السوريين، بينما نحن لم نتعاقد مع أحد تبعاً لأحكام القانون 46 الصادر عن مجلس النواب والذي منع التعاقد. بل على العكس حاولنا أن نجد حلاً لهذه المشكلة. ولكن هناك أنواع من المتعاقدين. وقد استطعنا ايجاد حلول لهم كالذين كانوا ينتظرون درجاتهم الست. في المقابل، هناك متعاقدون من دون تشريع وقد ردّ لهم رئيس الجمهورية قانون تثبيتهم. وكان من المفترض أن يكون هناك رد على الرد ولكن لم يصل جدول الأعمال إلى هذه النقطة». يضيف: «وجِهت إلينا تعليمات بتجديد التعاقد للجميع وإن كان بالحد الأدنى للإبقاء على حقوقهم في حال التثبيت لاحقاً، وتم وضع ساعات تدريس لهم مماثلة عن العام الماضي. في ظل تزايد الإقبال على المدارس الرسمية هذا العام. وهذا برأيي منعطف هام جداً يرتب علينا عدداً أكبر من المتعاقدين لتلبية الحاجات المطلوبة اليوم».
برأي حماده، فإن «تأمين الرواتب ليس المشكلة في حال تم تثبيت المتعاقدين، لكن المشكلة تكمن في الضمانات الاجتماعية اللاحقة والتعويضات والتقاعد، وإلى قانون عبر مباراة محصورة أو مفتوحة في مجلس الخدمة المدنية».
يختم حماده: «بعض الجهات السياسية حاولت تعطيل كل المراسيم والمناقشات المتعلقة بوزارة التربية والتعليم خلال السنتين الماضيتين، وقبل ذلك وضعوا يدهم على كل المواقع في وزارة التربية وهذا ما عقدّ الأمور أكثر».
حبيقة: خطورة التثبيت في الطريقة لا العدد
ولكن هل تستطيع موازنة الدولة تحمل عبء تثبيت نحو 15 ألف متعاقد؟
برأي الخبير الاقتصادي لويس حبيقة، فإن الخطورة في تثبيت المتعاقدين تكمن في الطريقة وليس في عددهم. هو يقول لـ«المستقبل»: «كان من المفترض النظر إلى أزمة المتعاقدين قبل إقرار سلسلة الرتب والرواتب، واليوم لدي شكوك في أن يكون سبب التأخر في تثبيتهم مالي فقط. هذا الموضوع بحاجة إلى جدية أكثر من أجل إيجاد الحلول اللازمة وإنصاف الأساتذة المتعاقدين عبر فتح مباراة لهم من أجل اختيار النخبة، لأن عملية التثبيت لا يجب أن تكون عشوائية كي لا نُضر قطاع التعليم من جهة والاقتصاد من جهة أخرى». يضيف حبيقة: «لا شك أن عملية التثبيت ستؤثر بشكل أو بآخر على ميزانية الدولة، ولكن في المقابل لا نستطيع أن نظلم الأساتذة المتعاقدين. لذلك يجب تخفيف الإنفاق بالموازنة بقدر أجور المتعاقدين وتثبيتهم».
حبيقة يرد أسباب أزمة المتعاقدين إلى وزارة التربية بالدرجة الأولى من خلال الأعداد الكبيرة التي تعاقدت معها من دون أن تجد لهم حلولاً مناسبة من أجل تثبيتهم على دفعات أو بحسب ما تقتديه الحاجة.
شاهين: حدّ أدنى معيشة يليق بأستاذ
من جهتها، تقول رئيسة اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي نسرين شاهين لـ«المستقبل»: «بدأ تحركنا على الأرض كمجموعة لجان لأنه لم يعد مقبولاً أن يتقاضى الأستاذ المتعاقد راتبه ثلاث مرات في السنة، وهو محروم من أبسط حقوقه كبدل نقل وضمان اجتماعي، في ظلّ وضع اقتصادي صعب جداً. متسائلةً هل من المقبول أن يتقاضى الأستاذ راتبه الأول في شهر آذار؟».
تضيف شاهين: «نحن نُطالب بحدّ أدنى من المعيشة يليق بأستاذ، خصوصاً أن الإقبال على المدارس الرسمية يزداد عاماً بعد عام جراء الوضع الاقتصادي السيئ الذي يعصف بلبنان، لذلك نُطالب الدولة اليوم بثبيت المتعاقدين الذي وصل عددهم إلى نحو 15 ألف أستاذ. وفي حال لم تُستجب مطالبنا سنلجأ إلى الشارع».
تستطرد شاهين: «ندرك الأعباء الاقتصادية التي تترتب على الدولة في ظل حكومة تصريف أعمال، ونحن لا نريد أن تقع الدولة بعجز مالي كالذي حصل جراء إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ولكن نطلب منهم على الأقل وضع تصور أو خطة للمرحلة المقبلة والتعاون معنا من أجل الوصول إلى حلّ يُنصفنا».
تاريخ التعاقد
يُذكر أن التعاقد مع المعلِّمين يعود إلى الخمسينات من القرن الماضي. ففي العام 1961، صدر مرسوم حمل الرقم 6111 تاريخ 10/2/1961 أجاز لوزارة التربية الوطنية أن تتعاقد مع أشخاص من حملة الشهادة الابتدائية العليا (المتوسطة)، على الأقل، للتدريس في عدد من القرى النائية. وبعد سنوات طويلة من التعاقد الذي كان يجدَّد سنة فسنة، أخذ المتعاقدون في القرى النائية يقومون بالمراجعات والاتصالات لتثبيتهم في الملاك. واستمرّت المراجعات حتى العام 1973 في حين بادرت الحكومة إلى وضع مشروع قانون معجّل يرمي إلى تثبيتهم، ثم وضعته موضع التنفيذ بمرسوم رقم 6108 تاريخ 5/10/1973.
وما بين العامين 1971 و1975، أصدر مجلس الوزراء عدداً من القرارات التي أجازت لوزارة التربية الوطنية التعاقد مع حملة شهادة البكالوريا – القسم الأول لتأمين التدريس في المدارس الابتدائية والمتوسطة في عدد من المناطق. وبعد سنوات عدة من التعاقد، واستجابة لمطالب هؤلاء المتعاقدين، أحالت الحكومة على المجلس النيابي مشروع قانون معجلاً يرمي إلى تعيين المتعاقدين المُشار إليهم في الملاك. ثم وضع هذا المشروع موضع التنفيذ بموجب المرسوم الرقم 2271 تاريخ 6/9/1979 الذي قضى بتعيين المتعاقدين المعنيين بوظيفة مدرِّس من الدرجة الأخيرة وإعطائهم درجة تدرُّج عن كل ثلاث سنوات دراسية قضوها بالتعاقد قبل تعيينهم.
طوال الستينات ومطلع السبعينات، ظلَّ حجم المتعاقدين في صفوف الهيئة التعليمية محدوداً جداً. فمن أصل 18 ألف معلم لم يتجاوز عدد المتعاقدين العام 1974-1975 الأربعمئة متعاقد.
إلى أن حصل تحوّل دراماتيكي في توزيع المعلِّمين بعد نشوب الحرب الأهلية نتيجة الانتقال القسري للمعلِّمين من المناطق التي يعلّمون فيها إلى مناطق سكنهم الأصلي، أو إلى العاصمة، بسبب تردِّي الأوضاع الأمنية، أو بحجة تردِّيها، الأمر الذي أدَّى إلى إفراغ عدد كبير من المدارس من المعلِّمين، وتراكم هؤلاء في مدارس أخرى. هذا الوضع الناشئ سبَّب تحوّلاً دراماتيكياً أيضاً، على مستوى التعاقد، لجهة الأعداد الكبيرة من المتعاقدين (….).
بعد الحرب الأهلية ووصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى الحكم عمد إلى الاهتمام بشكل كبير بالتعليم واعتبره منطلقاً أساسياً في عملية النهوض الوطني، لا مجرد قضية تفصيلية في المجال العام. حرص الرئيس الحريري على متابعة تطوير العمل التعليمي والتربوي في كل دقائقه، ومثلما صبَّ جل اهتمامه على مشروع النهوض التربوي لتطوير المناهج والبرامج وتدريب الأساتذة وتوفير الأبنية المدرسية اللائقة والمُستوفية شروط العمل التعليمي، كذلك فقد أولى اهتمامه بالمعلم بصفته صلب العملية التربوية وعنصر نجاحها الأول. فعَمِلَ على تأمين مُتطلبات حاجات الأساتذة المتعاقدين والملاك المادية من رفع المرتبات وتأمين أفضل الضّمانات الاجتماعية والصحية لهم، كي ينصرف المعلم بشكلٍ كلّي إلى واجباته ويُعطي كامل جهده لطلابه، في جوٍّ من الراحة النفسية والمادية والشعور بالأمان.
ولكن بعد اغتيال الرئيس الشهيد وجراء الأزمات الاقتصادية التي لحقت بلبنان والتي أثرت بطبيعة الأحوال على القطاعات كافة بما فيهم قطاع التربية والتعليم عادت أزمة التعاقد إلى الواجهة من جديد جراء تزايد أعداد المتعاقدين وعادت اللجان إلى الطرقات من أجل الضغط على المعنيين للنظر بمطالبهم وتثبيتهم إلى أن تشكلت «اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الاساسي الرسمي» وتضم لجاناً عدة والتي بدأت تتحرك من أجل تحقيق مطالبها.