كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
منذ اتفاق الدوحة بات كل تأليف للحكومة يتحوّل الى أزمة وطنية مفتوحة بسبب مهلة التكليف تارة، والتناحر على المقاعد والحقائب وصولاً الى الخلاف على نصابها قبل الوصول الى البيان الوزاري طوراً
في عقد من الزمن أضحى كل تأليف لحكومة جديدة يجرجر أشهراً من الشروط المتبادلة قبل إبصارها النور بعد كلمة سرّ ما. كذلك انتخاب رئيس الجمهورية، في اوانه الدستوري، تحوّل الى ازمة وطنية مفتوحة بسبب الخلاف على الشخص مرة، وعلى المرحلة المقبلة وتوازن القوى الداخلي مرة اخرى، الى ان تهبط ايضاً كلمة السرّ. بل اوشك مجلس النواب ان يطاوله شغف التعطيل، حينما مُدّدت ولايته ثلاث مرات ما بين عامي 2014 و2017 قبل ان يستعيد مواعيده الدستورية.
حال الرئيس المكلف سعد الحريري كأسلافه، يواجه المآزق نفسها من دون تمكنه – على وفرة مرات دفاعه عن صلاحياته الدستورية واصراره على انها تخصه – من تأليف حكومة لا تأخذ في الحسبان موازين القوى الداخلية، واحجام القوى مقاعد وحقائب. في احسن الاحوال، شأن اسلافه سلّم عامي 2009 و2016 ـ وسيسلّم في المرة الثالثة ـ بما فرضته الكتل عليه او ستفرضه، اذ تقاسمه في الواقع صلاحية التأليف.
ما تخبره البلاد منذ عام 2008، لم تعرف نظيراً له ما بين عامي 1990 – مع اول حكومة طبقت الاصلاحات الدستورية في اتفاق الطائف – و2004. للمفارقة ان الاولى ترأسها الرئيس عمر كرامي، والاخيرة كذلك، قبل ان يجد الجيش السوري نفسه مرغماً على الانسحاب من لبنان في نيسان 2005.
على مر حكومتي كرامي هاتين، فان مراجعة سريعة للمهل الفاصلة بين التكليف والتأليف ترجحت بين 4 ايام حداً ادنى (حكومات 1990 و1995 و2000)، و14 يوماً حداً اقصى (حكومة 1996). عُزيت المهلة المقتضبة هذه، ابان الحقبة السورية، الى الدور المرجعي لدمشق في تأليف حكومات تجمع حلفاءها في الطوائف المختلفة، كما في سائر الاستحقاقات الدستورية. تتولى ادارتها مباشرة كي يفضي الاستحقاق تلو الآخر الى ما كان السوريون يتوخونه، وهو الامساك بالسلطة الدستورية الجديدة ونصابها. تطلّب الوصول الى هذا الهدف ـ وإن بتطبيق ملتوٍ للدستور – ابتكار فكرة غير مسبوقة: وضع العربة امام الحصان يصلح، وقد يكون اكثر فائدة احياناً من وضع الحصان امام العربة: تأليف يسبق التكليف ولا يليه.
المقصود بهذه الآلية الجديدة، وقد استمرت عقداً ونصف عقد من الزمن، الاتفاق على تأليف الحكومة قبل تكليف الشخصية المعنية – المعروفة والمتفق في الاصل سلفاً عليها – كي لا تؤول الحال الى ما بات اللبنانيون يدركونه على الدوام بعد عام 2008: ليس آمناً ولا كافياً بالضرورة تسمية الرئيس المكلف كي يتمكن فعلاً من تأليفها في الوقت المطلوب، وإن حظي باوسع تأييد من الاكثرية النيابية او حتى الاجماع او شبه الاجماع عليه. في الغالب تنفجر النزاعات والطموحات والصراع على المقاعد والحقائب بعد التكليف، من غير ان يؤدي الى التأليف بالسهولة المتوخاة.
آلية كهذه، حتماً، مناوئة لاحكام الدستور – ولم يكن السوريون يتجاهلونه في الظاهر سواء في الاستشارات النيابية الملزمة او مفاوضات التأليف والمناصفة وتوزيع الحصص على الطوائف – بيد انها كانت تفضي باستمرار الى اختصار المهل، بفضل التفاهمات السياسية التي تولت دمشق سلفاً تنظيمها ورعايتها. الحصيلة نفسها راحت حكومات ما بعد عام 2008، عندما وضعت الحصان امام العربة، تنتهي اليها بتقاسم المقاعد والحقائب، وتمييز تلك السيادية عن الاساسية عن الثانوية، وتسويات بعيدة من الاضواء ومن الآلية الدستورية في المادة 53 اذ تحصر التأليف برئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. الا ان المهل ليست كذلك.
بعد خروج السوريين اضحت الكتل الكبرى شريكاً رئيسياً لا يُستغنى عنه في الوقت الطويل الذي يستغرقه التأليف، كما في مراحل التأليف خصوصاً. ذلك ما يعنيه تمسّك معظم هذه باكراً بحقائب محدّدة لا تتنازل عنها تارة، وبفرض افرقاء فيتوات على افرقاء آخرين في ما يحوزونه او لا يحوزونه مقاعد وحقائب.
اتّبعت دمشق آلية تأليف الحكومات المتعاقبة ابان زمانها في لبنان وفق القواعد الآتية:
1 – بسبب عامل السرعة في التأليف، لم تظهر مرة على مرّ الحكومات التسع في المرحلة تلك مشكلة التكليف المفتوح الذي يضع زمام التأليف بين يدي الرئيس المكلف ويقبض عليه، ولا يتخلى عنه، ويتحوّل الى اداة ضغط على رئيس الجمهورية الذي لا يسعه انتزاعه منه، كما على الافرقاء الآخرين. لم تفصح هذه المشكلة عن نفسها الا منذ عام 2008، وامست عقبة كأداء في التأليف، وسيفاً مصلتاً يرفعه الرئيس المكلف في وجه هؤلاء كما طوائفهم كلما ذكّره احدهم بأن الوقت طال اكثر مما ينبغي.
2 – اخذ السوريون على عاتقهم، ما ان تستقيل حكومة، العمل على اجراء مشاورات مع حلفائهم لم تكن تحتاج سوى الى ايام قليلة كي تتضح ملامح الحكومة الجديدة. كانت المشاورات تشمل الحلفاء فحسب، كون المعارضة خارج السلطة قليلة التأثير ليس في مقدورها سوى الاحتجاج والاعتراض. بغية الافادة من السرعة، يوزّع السوريون الحصص على قوى ثلاث: رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، الى حصة رابعة هي لدمشق من خلال حلفائها الذين يشكلون في نهاية المطاف – مع حصص الرؤساء بالتأكيد – نصاب الثلثين الذي تتطلّبه. عندما يحرد فريق او حليف من تقليص حصته او حرمانه منها يعوّضونه بالعبارة التالية: «معليش في المرة الجاية». بذلك يتفادون تنافس الحلفاء و«استقتالهم» على التوزير المحكوم بسقف الارادة السورية ليس الا، وفي الوقت نفسه يأخذون في الحسبان التوازنات الداخلية. يوزّعون المقاعد والحقائب بناء عليها. ما كان يعنيهم ان يكون حلفاؤهم داخل الحكومة الجديدة.
3 – مطبخ المشاورات في دمشق اولاً، واستكمالها في بيروت. هناك في مكاتب ثلاثة عرّابين يتسابق الحلفاء اللبنانيون على كسب رضاهم وابراز ولائهم لهم: نائب الرئيس عبدالحليم خدام، رئيس الاركان العماد حكمت الشهابي، اللواء محمد ناصيف. ناهيك بمكتب رابع في عنجر هو للواء غازي كنعان. الا ان الرجال الاربعة هؤلاء يدورون في فلك الرئيس حافظ الاسد، ثم خلفه الرئيس بشار الاسد، قبل خروج الشهابي من المعادلة عام 1998، وكنعان عام 2002، والتفكك التدريجي لنفوذ خدام وصعود هيبة ناصيف في النظام، وقد بات الاسد الابن محور الارادة والقرار وحده. بذلك كان من السهولة بمكان العثور على حصة لكلٍ من هؤلاء في الحكومات المتعاقبة.