كتبت هديل فرفور في صحيفة “الأخبار”:
لا يبدو أن مشروع البطاقة الصحية يُحاكي، حتى الآن، المطلب «الأزلي» بإقرار نظام صحي موّحد للمُقيمين اللبنانيين. ففي وقت يُروّج للمشروع على أنه «بُشرى» لنحو أربعة ملايين لبناني يفتقرون الى التغطية الصحية، تُظهر المعطيات أن المشروع ليس إلا نموذجاً هجيناً عن مشاريع التغطية الصحية المُجتزأة التي اقتُرحت دائماً، تجنّبا لإقرار نظام صحي موحد يكون ممولاً من الضرائب المباشرة. حتى الآن، لا تتضمّن النصوص المُقترحة للمشروع مفاهيم واضحة حول طبيعة عمل هذه البطاقة ودورها في إرساء نظام صحي شامل. كل ما تُبيّنه هو التوجه نحو إعتماد بطاقة تكون بمثابة سجلّ صحي للمُستفيد. أما الربط بينها وبين طبيعة النظام الصحي المُزمع إرساؤه فلا يزال مبهماً.
تبحث اللجان النيابية المُشتركة حالياً مشروع إقتراح القانون الرامي إلى إنشاء نظام البطاقة الإستشفائية تحت عنوان مناقشة «مشروع البطاقة الصحية». حتى الآن، ثمّة نسختان من إقتراح القانون: واحدّة مُعدّلة من لجنة الصحة، والثانية مُعدّلة من لجنة الإدارة والعدل.
بحسب رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان، كما صرّح عقب انتهاء جلسة مناقشة المشروع الأربعاء الماضي، فإنّ البطاقة عبارة عن «سجلّ صحي» يتضمّن التاريخ الصحي للفرد، ومن شأنها أن تُسهّل «عملية العلاج المطلوبة من دون الحاجة إلى تقديم المريض في كل مرة تقارير طبية بتاريخه الصحي». وقال إن البطاقة «ستشمل 4 ملايين لبناني»، مُشيراً الى أنّ «تحقيق تغطية صحية شاملة لجميع المواطنين يُعد من أهم أهداف الإستراتيجية الوطنية للصحة (…) وذلك يتطلّب تأمين الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية المضمونة الجودة لجميع المواطنين ورفع العبء المالي قدر الإمكان عن الأكثر فقراً». لكن كنعان لم يشرح الرابط بين امتلاك اللبنانيين لبطاقة ليست سوى عبارة عن «سجلّ صحي» وبين إقرار نظام التغطية الصحية الشاملة الذي طال انتظاره. ربمّا لأنّ نص الإقتراح نفسه، بنسختيه، لم يُقدّم تعريفاً واضحاً (حتى الآن) لمفهوم هذه البطاقة، ولم يشرح «دورها» في إقرار النظام الشامل.
خلط بين المفاهيم
«الأخبار» اطّلعت على نسختي اقتراح القانون اللتين وُزعّتا على شكل جدول مُقارنة في الجلسة الأخيرة للجنة المال والموازنة. ولعلّ المُفارقة الأهم التي تُثيرها النسختان تتمثّل بالخلط غير المفهوم بين البطاقة الصحية والتغطية الصحية من جهة، وبين التغطية الإستشفائية والتغطية الصحية من جهة أخرى!
إذ تنصّ المادة الأولى من اقتراح القانون، كما عدّلته لجنة الصحة، على ما يلي: «يُنشأ في وزارة الصحة العامة نظام البطاقة الإستشفائية الإلزامي (مشروع البطاقة الصحية)». في حين تنص المادة الأولى من الإقتراح المعدل من لجنة الإدارة والعدل على الآتي: «يُنشأ في وزارة الصحة العامة نظام التغطية الصحية الشاملة الإلزامية (مشروع البطاقة الصحية)». ومن المعروف أن التغطية الإستشفائية تختلف عن التغطية الصحية. فالثانية أوسع بكثير من الأولى، وتشمل التغطيات الإستشفائية والطبابة والفحوصات المخبرية وغيرها، في حين تقتصر التغطية الإستشفائية، كما يشير اسمها، على تغطية تكاليف الإستشفاء فقط. واللافت أن الجدول الذي يضم النسختين لم يتضمّن تعريفاً واضحاً لماهيّة البطاقة ودورها في استفادة المريض من نظام التغطية الصحية الشاملة. بل تم دمج مفهوم البطاقة الصحية بنظام التغطية الصحية الشاملة الإلزامية تارة، وبنظام التغطية الإستشفائية الإلزامية تارة أخرى.
البطاقة لقاء بدل: أين الإلزامية؟
وفي معزل عن ذلك الخلط غير المُبرّر بين مفاهيم الصحة والبطاقة الصحية، تشترك نسختا القانون في التركيز على «إلزامية» البطاقة، وفي الوقت نفسه تفرضان نوعاً من الإشتراك أو البدل لقاء الحصول عليها. ففيما تنصّ المادة الخامسة في نسخة لجنة الصحة على أن واردات النظام/ البطاقة تتألف من بدل الاشتراك السنوي الذي يدفعه المُستفيد إضافة الى موارد أخرى (المبالغ المرصودة في الموازنة/ التبرعات والهبات، ضريبة تعاضدية إلخ)، تشير المادة الخامسة من نسخة لجنة الإدارة والعدل الى «تحديد مساهمة المستفيد» من واردات البطاقة/ النظام. وتنص على دفع المستفيد 10% من قيمة فاتورة الإستشفاء في المُستشفيات الحكومية والخاصة المتعاقدة مع وزارة الصحة، و20% من قيمة فاتورة الفحص الطبي والفحوصات المخبرية والشعاعية في المستشفيات الحكومية.
وفرض بدل اشتراك على المُستفيد من البطاقة/ النظام ينافي مفهوم الإلزامية. إذ كيف يمكن لغير القادر على دفع الإشتراك أن يكون مُلزماً بالإستفادة من البطاقة؟ علماً أن لجنة الصحة ذكرت في نسختها أن من يمتنع عن تسديد بدل الإشتراك السنوي «لا يمكنه أن يستفيد شخصياً أو يستفيد أحد أفراد أسرته الذين هم على عاتقه من تقديمات النظام ما لم يُسدد البدلات المتوجبة من فترات سابقة. وتُفرض عليه في هذه الحالة غرامة قدرها 5% سنويا (…)»! وهذه القاعدة تعني، عملياً، أن الفقراء غير القادرين على دفع الإشتراك سيلقون المصير نفسه الذي يلقونه حاليا لجهة حرمانهم من التمتّع بحقهم في الطبابة والإستشفاء. وبالتالي، فإنّ صيغة القانون الحالية ــــ بنسختيه ــــ تلقي جزءاً من التمويل على عاتق المُشتركين والمرضى غير المضمونين، بما لا يحقّق الإصلاح البنيوي المطلوب للنظام القائم.
وكان وزير العمل السابق شربل نحّاس قد تقدّم بمشروع قانون لتطبيق نظام موحد للتغطية الصحية يشمل كل المقيمين اللبنانيين يكون ممولا من الضرائب المباشرة على الثروة والدخل والريوع. إلّا أن المشروع تم رفضه من قبل جميع القوى السياسية كونه «يمسّ بالكثير من المصالح التي يرسيها غياب نظام صحي موحد ويُشكّل أداة لإعادة توزيع المداخيل بين الطبقات».
ضرب الضمان الإجتماعي؟
وفق المُقترحات الحالية، فإنّ المُستفيدين من البطاقة هم اللبنانيون «الذين لا يستفيدون من أي تغطية صحية أخرى، بصفتهم الشخصية أو بصفتهم متلقي حق». بمعنى آخر، تتوجّه هذه البطاقة الى الفئة التي تُعرف بـ «مرضى الوزارة»، أي أولئك الذين يُعالجون على نفقة وزارة الصحة العامة. علما أنّ مهمة تأمين التغطية الصحية للمواطنين ليست من مهام الوزارة، إذ تقوم الأخيرة، في حالات إستثنائية وإضطرارية بدفع بعض النفقات لبعض الحالات، إلّا أن «الإستثناء» كُرّس واقعا نتيجة الفوضى التي تحكم القطاع الصحي، ما سمح بـ «خلق» تلك الفئة التي تتلقّى العلاج على نفقة الوزارة.
بحسب نحّاس، مهمة تأمين التغطية الصحية للمُقيمين في لبنان في المبدأ تقع على عاتق الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، «فيما تقتصر مهمة وزارة الصحة على مراقبة العمليات التي تحكم القطاع الصحي والإشراف على كيفية إدارة النظام الصحي»، لافتا إلى أن غياب الإستراتيجيات سمح بتكريس الإستثناء وبالتالي أرسى واقع تكبيد وزارة الصحة أكلاف تغطية نفقات المرضى الذين لا يملكون أي تغطية صحية أخرى.
ينطلق نحاس من هذه النقطة ليُشير إلى أن إنشاء بطاقة صحية في وزارة الصحة يُعزّز هذا الواقع الإستثنائي ويُساهم في «انتقال» جزء كبير من المُسجّلين في صندوق الضمان الإجتماعي الى «كنف» الوزارة للإستفادة من البطاقة، إذ «من الطبيعي أن يتخلّى الفرد المُسجّل في الضمان عن الصندوق من أجل الاستفادة من البطاقة طالما أن الإشتراك سيكون أقل كلفة».
في ضوء ذلك، ثمّة من يطرح إشكالية أخرى. إذ أن إقرار البطاقة، وفق الصيغ المقترحة، سيشجّع أرباب العمل على عدم تسجيل الأجراء العاملين لديهم في الضمان الإجتماعي تهرّباً من دفع الإشتراكات السنوية، نظرا لامكانية استفادة هؤلاء من البطاقة الصحية. بمعنى آخر، سيكون خيار البطاقة «مُربحاً» لهؤلاء، ما يطرح تساؤلات حول مصير الضمان الإجتماعي جرّاء إقرار البطاقة وفق هذه المعادلة المُجتزأة التي لا تأخذ في الإعتبار آلية معالجة جذرية للتغطية الصحية الشاملة.
ماذا عن بقية الجهات الضامنة؟
إلى جانب الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، ثمة جهات ضامنة أخرى تتمّثل بصناديق تعاضد مخصصة لفئات من العاملين في القطاعين العام والخاص إضافة الى شركات التأمين الخاصة التي تتعاقد معها نقابات المهن الحرّة. فبعض هذه الصناديق يتلقى دعما من الخرينة العامة بمليارات الليرات اللبنانية (تساهم الدولة عبر وزارة العدل، مثلاً، بدعم مباشر بنحو 12 مليار ليرة لصندوق تعاضد القضاة). وجود نظام صحي شامل إلزامي قائم على الضرائب المباشرة من شأنه أن يجعل بقية الجهات الضامنة بمثابة أنظمة صحية مُكمّلة للخدمات الصحية الأولية الرعائية التي يُقدّمها هذا النظام، فيُصبح المستفيد من هذه الجهات الضامنة، مثلاً، مُستفيداً حكماً من تقديمات النظام الصحي الرعائي من جهة، ومن «الخدمات الإضافية» التي تُقدمها الجهة الضامنة المُسجّل لديها. إلّا أن الصيغة المقترحة للبطاقة الصحية تحصر المستفيدين بأولئك الذين لا يملكون تغطية صحية (مرضى وزارة الصحة)، ما يعني، عملياً، الإبقاء على بقية الصناديق والجهات الضامنة مع أعبائها المالية المترتبة على المُستفيدين منها سواء العاملين في المهن الحرة أو في القطاع العام أو في القطاعات الخاصة.