Site icon IMLebanon

الحريري يستقيل؟

كتب محمد قواص في صحيفة “الشرق الأوسط”:

عبث رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بقواعد اللعبة السياسية التي أنتجت العهد الجديد برئاسة ميشال عون. قامت هذه القواعد على شراكة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل لها أصولها ورموزها وشيفرتها، فكان أن لوّح الحريري لأول مرة بأنه قد يصبح في حِلّ من التفاهمات وضواحيها، على نحو يقلب الطاولة على ثوابت يعمل وفقها كل الفرقاء السياسيين، سواء كانوا خصوما أو حلفاء.

مورست على الحريري منذ تكليفه قبل أشهر ضغوط تعاقب الجميع على فرضها. بدا في بعض هذه الضغوط أن من سمّوْا الحريري لهذه المهمة في المشاورات الدستورية الملزمة، أرادوه مُحللا لطموحاتهم مباركاً لمناوراتهم، فيما ظهر الرجل في بعض الحالات “متساهلاً” مع مزاجيات بعبداً ونزق رئيس الجمهورية من مسألة صلاحيات منصبه التي قلصها اتفاق الطائف. لم يعترف ميشال عون باتفاق عام 1989 حين كان جنرالا في بعبدا، وهو في تمرينه الحالي يشي بأنه لن يسمح لدستور ذلك الطائف أن ينال من هيبته ودوره في تحديد شكل الحكومة العتيدة وهويتها ولعبة الأوزان داخلها.

سلكت بعبدا مسارات فُهم منها مساسا بصلاحيات رئيس الحكومة. تحدث الطائف عن شراكة لرئيس الجمهورية تخوّله إبداء الرأي في التشكيلات الحكومية، لكنه لم يمنحه صلاحية وضع معايير التشكيل أو التدخل في حيثيات ذلك. اضطر رؤساء الحكومة السابقين أن يرفدوا رئيس الحكومة الحالي بموقف واضح يتصدى، وفق الأبجديات السياسية الطائفية اللبنانية، لسلوكيات منصب رئاسة الجمهورية الذي يحتله الموارنة والدفاع عن موقع رئاسة الحكومة الذي يحتله السنّة. وحين هدأت تلك الحساسية بتوضيح عون لحوافز “ملاحظاته”، بدا أن مناورات الحريري تضيق وحركته تُحاصر تحت مسوّغ التمسك بالموقف الوسط بين تناتش الفرقاء ومعاركهم التحاصصية.

تحصّن الحريري خلف اعتبار ردده دائما يصف فيه عون بأنه “بيّْ الكل” (أب الجميع). بالمقابل تصرّف رئيس الجمهورية ليس بصفته الحيادية الجامعة هذه، بل بصفته طرفا مدافعا عن فريقه. وتمسك رجل بعبدا بحصة وزارية له تختلف عن حصة التيار الوطني الحرّ الذي يقوده تاريخيا ويرأسه صهره وزير الخارجية جبران. كان عون قد رفض “بدعة” حصة رئيس الجمهورية في الحكومة في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، ليعود ويعتبرها حقا مطلقا شبه دستوري في عهده. وفيما سعى الرئيس المكلف لتدوير الزوايا والاهتداء إلى المخارج وصناعة التسويات وحمل خلاصة ذلك إلى بعبدا، كان واضحا أن مؤسسة الرئاسة تعمل على إجهاض مسعاه وتيئيس حركته، حتى إذا ما لاح أمل من قبل الرئيس نفسه جرى سريعا تبديده من قبل صهر الرئيس.

راحت بعض التحليلات تربط أمر العرقلة بـ”قطبة مخفية” خارجية. بيد أن هذه التحليلات لا تستقيم مع واقع حال إقليمي دولي يحثّ فرقاء الداخل على تشكيل حكومتهم، لا سيما أن مسارعة العواصم الكبرى لإنجاح مؤتمر “سيدر” في باريس، كان علامة واضحة على استعداد العالم لرفد لبنان بحوالي 11 مليار دولار، إذا ما قرر اللبنانيون أنفسهم التقاط هذه الفرصة والالتحاق بقطار يتوافق الغرب والشرق حول ضروراته. ثم أن التسوية التي قادت إلى انتخاب برهم صالح رئيسا للجمهورية في العراق وتكليف عادل عبدالمهدي بتشكيل الحكومة هناك، مؤشر آخر إلى أن هذا الخارج، بما في ذلك طهران، يود إخماد التناقضات البيتية بمعزل عن الحراك الدولي الحاصل بشأن إيران.

لا يمانع سعد الحريري بأن يتسلم حزب الله وزارة الصحة لكنه يحذر من محاذير ذلك على علاقة الوزارة مع برامج تمولها عواصم غربية، ومنها تلك الممولة بحوالي 150 مليون دولار من قبل واشنطن. بدا واضحاً أن أمر هذه الوزارة قد حُسم لصالح الحزب على نحو يجرد الأخير من أي عرقلة يمثل الثنائي عون – باسيل واجهتها. سبق للشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام للحزب أن غمز من قناة الطامحين بمنصب رئاسة الجمهورية بعد أربع سنوات. فهم المراقبون أنه يقصد حليف الحزب جبران باسيل، وفهم المراقبون أيضا أن الحزب مستاء من عراقيل الصهر ونزق العمّ دون أن يكون للحزب نية في الضغط على حليفه في بعبدا أو في معالجة طموحات باسيل الرئاسية.

لا تسمح التوازنات الإقليمية الدولية، كما تلك الداخلية اللبنانية، بتشكيل حكومة تتيح لعون وفريقه الهيمنة على التشكيلة الحكومية المقبلة. كما أن حزب الله الذي يراقب بقلق تصاعد الضغوط الأميركية، وربما الغربية الشاملة، على إيران، ويراقب بقلق أكبر حملة العقوبات التي تطاله والملاحقات التي تنال من دوائره في العالم، هو أكثر التوّاقين إلى تشكيل حكومة يحتمي داخلها بجدران الشرعية اللبنانية وشبكاتها في العالم. لا تسمح التوازنات بتهميش الوزن الذي بات حزب القوات اللبنانية يمتلكه داخل المشهد السياسي اللبناني، أو بالتقليل من نفوذ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط داخل مفاصل الحكم في لبنان. وعليه، فإن تمارين التعطيل، على ما ردد ويردد دائماً رئيس مجلس النواب زعيم حركة أمل نبيه بري، لبنانية الأصل والمنبت والأدوات والأهداف.

سبق للخصوم أن لوحوا بسوْق الحريري نحو مجلس النواب للتصويت على سحب التكليف الحكومي منه. بدا أن في الأمر مناكفة وكيدية لم يُدنها حزب الله ولم يستهجنها بري. يتقدم الحريري هذه الأيام بمعادلة أخرى. يعلم الرجل أن وجوده على رأس الحكومة ليس منّة من أحد، بل حاجة جماعية تنظم الصراع السياسي وترسم خطوط التماس داخله. يمثّل الحريري حالة توافق لبنانية نادرة، لكنه يمثّل أيضا نقطة توازن دولي تحرص أوروبا والولايات المتحدة كما روسيا ودول المنطقة على تعزيزها. فإذا ما تضافرت جهود مصر وباريس وواشنطن وموسكو على حلّ مسألة استقالة الحريري في الرياض قبل عام، فإن في ذلك حكمة تجعله المرشح الإقليمي الدولي الأول، وربما الوحيد، لتبوء منصب رئاسة الحكومة في لبنان.

ما بين الوعد الذي سمعه الحريري من ميشال عون في بعبدا، والمؤتمر الصحافي الذي عقده جبران باسيل بعد أيام، قفز لبنان من موقع التفاؤل وفق الحريري، إلى موقع “التفاؤل المفتعل” وفق باسيل. قال الحريري قبل أسابيع إنه فوجئ بالبيان الذي صدر عن رئيس الجمهورية بشأن ملاحظات تتعلق بالتشكيلة الحكومية التي قدّمها في 3 سبتمبر الماضي. وقال الحريري قبل أيام إنه فوجئ بموقف باسيل “غير الإيجابي” بعد ساعات على إعلانه أن تشكيل الحكومة سيحصل خلال أسبوع أو عشرة أيام. والظاهر أن الحريري سأم تلك المفاجآت التي لا تستقيم مع أبجديات المنطق وعلم دراسة الخرائط السياسية، فقرر بدوره أن يعبث بالمسلمات.

يقدّم الحريري رواية جديدة. هو زاهد برئاسة الحكومة ولن يقبل تكليفه مجددا بتأليفها إذا ما وصلت الأمور إلى حدّ اعتذاره عن أمر ذلك حاليا. لسان حال الرجل يقول “لن أعود إليكم وإلى ألعابكم وتدللكم وغياب المسؤولية عن سلوككم”. لا يهم ما إذا كان الرجل يهوّل أو يناور، ولا يهمّ ما إذا كان الفرقاء السياسيين يأخذون هذا التهديد على محمل الجد. المهم أن هذا الاحتمال بات واردا لوقف النزف الذي يصيب البلد ولقلب المعادلة التي أنتجت صيغة رئاسية يتحمل الحريري جزءا من المسؤولية في ولادتها. فإذا ما كان فريق 8 آذار، المتشكّل حول الثنائي حزب الله والتيار العوني والمبشر بالتحالف مع إيران والتطبيع مع نظام الأسد، قادر على مواجهة العالم بحكومة على مقاسه “فليكن دوني، فليكن دوننا”.

هذا لسان حال سعد الحريري هذه الأيام، ربما جاء ذلك متأخرا، وما على الآخرين إلا ترتيب حساباتهم وفق فواتير جديدة.