IMLebanon

التصحيح الطوعي أو انهيار أسوأ من الـ92

كتب محمد وهبة  في صحيفة “الأخبار”:

دقّ الوزير السابق شربل نحاس ناقوس الخطر. برأيه أن الوضع المالي والاقتصادي شبيه بعام 1992 مع فرق واحد؛ في تلك الفترة كانت الأزمة مفتعلة تمهيداً للنظام السياسي الذي سيطر على لبنان طوال الـ25 سنة التالية، أما اليوم فالأزمة ليست مفتعلة والبديل غير جاهز. الأزمة قد تأخذ شكلاً نقدياً أو مالياً. لا يمكن التنبؤ بنتائجها. لا يمكن السيطرة عليها. فإما نتوقف عن مواصلة شراء الوقت ونقوم بتصحيح إرادي، وإما نكون أمام مصير مجهول

للمرّة الأولى يصدر من خارج السرب السياسي، تحذير من خطورة الأوضاع المالية والاقتصادية. هو شربل نحّاس الخبير في السياسات النقديّة قبل أن يكون وزيراً مستقيلاً من وزارة العمل ومن تكتل التغيير والإصلاح، وقبل أن يتحوّل إلى رئيس لحركة مواطنون ومواطنات. امتنع الرجل لفترة طويلة عن الخوض في أخطار الوضع النقدي. اكتفى بتشخيص النموذج اللبناني بأقسامه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيداً من أي استنتاجات. يبرّر سلوكه السابق، بأنه لا يجب إثارة القلق، إلا بعد تعزيز مناعة الفئات الأضعف في المجتمع. هؤلاء هم الذين ستدمّرهم الأزمة. عتاة السلطة بإمكانهم تهريب أموالهم خارج لبنان. أما الذين لا يملكون سوى مدخرات بسيطة أو رواتب وتعويض في الضمان الاجتماعي فـ«سيأكلون الضرب». المؤسّسات في لبنان «ستأكل الضرب». الكبار هرّبوا ما طاب لهم من أموال. أبناء الفقراء والطبقة الوسطى لن تسنح لها الفرصة.

تطورات سلبية

إذاً، ما الذي تغيّر؟ «صار الوضع داهماً». قالها نحاس أمس في مؤتمر صحافي. ينطلق نحاس من وقائع مستجدّة:

– استوقفنا الاهتمام المفاجئ من الصحافة الأجنبية بالوضع المالي والاقتصادي في لبنان، فهي تتداول الأخبار عن الأخطار المالية في لبنان بشكل يومي وبالتفصيل.

– لفتنا أن سندات اليوروبوندز المتداولة في السوق الدولية تعرضت لضربة وحصلت عليها مبيعات أدّت إلى انخفاض أسعارها وارتفاع العائد عليها وارتفاع قيمة التأمين عليها.

– لجأ مصرف لبنان إلى عدد من الإجراءات التي تضمن أولوية عدم خروج العملات الأجنبية (الدولارات) من لبنان. فهو أصدر تعميماً يحدّد سقفاً للتسليف بالليرة ضمن حدود 25% من مجموع الودائع بالليرة لدى المصارف، ما أدّى عملياً إلى وقف التسليف بالليرة، لعلمه بأن هذه التسليفات ستؤدي إلى زيادة الاستيراد، وبالتالي تسهم في خروج العملات الأجنبية المدفوعة ثمناً للسلع المستوردة.

– ظهر القلق عند بعض المصارف من خلال منتجات ذات فائدة مرتفعة أو إجراءات لضبط السيولة والتنافس عليها.

– بدأ تقاذف المسؤوليات فيما جاء إلى لبنان منذ يومين مبعوث فرنسي خاص لتجميد حالة التفكك المستشرية. الموفد الرئاسي الفرنسي يقوم بجولة على المسؤولين في هذا الإطار.

– العقوبات الأميركية جاهزة على لبنان وهي خطوات يجب النظر إليها بشكل جدي في ظل التطوّرات التي تتعلق بملفات إقليمية. الإغراءات حاضرة والانتهازيون كثر.

ما يحصل لا يبشّر بالخير، خصوصاً أنه لا يمكن النظام السياسي والاقتصادي في لبنان «أن يؤدي إلى شيء غير الأزمات» وفق نحاس. «الوضع اليوم مختلف. عمّ القلق. الفوائد ترتفع. فوائد التسليف». تبعاً لتوصيفه «نحن نعيش أزمة ميزان مدفوعات. لذلك هناك تقنين باستيراد المحروقات، وليس بالكهرباء، ولذلك يترصّد الطامعون بإيرادات الدولة بالدولار (اتصالات، مطار…) ويرتّبون ديوناً ممتازة على الدولة بالدولار بحجة توريد عقود للكهرباء خاضعة للمحاكم الأجنبية وغيرها». فمن الواضح أن هناك احتمالاً بأن تحصل أزمة «تأخذ شكلاً نقدياً أو مالياً، أو سيولة أو غيرها».

إزاء هذا الوضع، قرّر نحاس أن يخاطب «اللاعبين الفعليين على الساحتين السياسية والاقتصادية». هم يتوزّعون على ثلاث جهات: أصحاب المصارف والأموال، زعماء الطوائف، الدول والمؤسسات الخارجية التي ترى لسبب من الأسباب نفسها معنية بما يحصل في لبنان». وهم الجهة القادرة على العمل من أجل وقف تأجيل الأزمة وبدء «الإجراءات العملية لتنفيذ التصحيح الإرادي. يجب استباق هذه الأزمة وفي حال لم يكن هناك أي تجاوب من الأطراف المعنية والمسؤولة، بل قرّرت أن تواصل شراء الوقت بثمن باهظ وبنتائج تخنق المجتمع، فسنشهد مزيداً من التعثّر، وإقفالاً أكثر للمؤسسات وتخلفاً أكثر عن سداد الديون… في وقت الأزمات سيكون كل شاطر بشطارته. هذا أمر بالغ الخطورة».

توزيع الخسائر على من؟

لأصحاب المصارف والأموال يقول نحاس: «عبء الفوائد على التسليفات للدولة، وللمصرف المركزي، وللشركات، وللأسر، وللأفراد، يفوق بكثير قدرة المقترضين، وهذا يعني حكماً وجود خسائر كامنة». ما يريد قوله أنه يجب النظر إلى قدرة المقترض على الإيفاء بدينه أصلاً وفائدة. هذا الأمر هو أساس العلاقة بين الدائن والمدين. الدائن هي المصارف والمدينون هم الدولة والأسر والأفراد والشركات. قدرة المدينين على تحمّل كلفة الدين تعد حيوية لاستمرار هذه العلاقة. إذا كانت قدرتهم على السداد أقل من أعباء الفوائد المترتبة عليهم فهذا يعني حكماً وجود خسائر ستضطر المصارف أن تشطبها من ميزانيتها عاجلاً أم آجلاً.

أمام هذا الواقع، لا يرى نحاس إلا خيارين:

– الاستمرار في تخبئة الخسائر ومراكمتها، وبالتالي شدّ الخناق على المجتمع والاقتصاد وتفاقم هجرة الشباب بهدف كسب المزيد من الوقت الذي صار داهماً. كل ذلك في انتظار مجهول ما أو لتمرير صفقة ما.

– نتجرأ على تنظيم توزيع عقلاني للأعباء والأخطار والخسائر يسمح بالحفاظ على حدّ أدنى من الأمان الاجتماعي، والحفاظ على المصارف وعلى قدراتنا الإنتاجية وعلى شبابنا.

الاستمرار في تخبئة الخسائر ومراكمتها هو خيار من ينوي الهروب مع ماله وعائلته

«الخيار الأول هو خيار من ينوي الهروب من البلد مع ماله وعائلته عند أول منعطف. الخيار الثاني هو خيار أصحاب المصارف والأموال الحريصين على استمرارية مؤسساتهم ومستقبلها في لبنان. بلا الخيار الثاني لا مستقبل لأحد والمجتمع سيتغيّر إلى شيء جديد لا نعرفه». ويشير إلى أن مسؤولية المصارف ليست هي أولاً تجاه المودعين والاقتصاد والإنتاج. «مصرف لبنان عمل ما يُعمل، وما لا يُعمل، لكسب الوقت. غياب القرار السياسي أهدر الوقت وأهدر الثمن الغالي الذي دُفع لكسبه».

لزعماء الطوائف يذكّرهم نحاس بالأزمة المالية الكبيرة في 1992. كانت مفتعلة كما يراها وفق الأدلة. كانت تمهّد للنظام السياسي الذي حكم لبنان 25 سنة. «نحن اليوم أمام مشهد شبيه ولكنه غير مفتعل وليس هناك بديل جاهز أو واضح. لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائج الأزمة أو السيطرة عليها… جزء كبير منكم ربط مصيره برهانات على الخارج. الفطن (الذكي) بينكم قلق. من مصلحة الجميع أن نبدأ مسار تصحيح مالي واقتصادي وسياسي يوفّر الأمان للجميع».

للدول والمؤسسات الخارجية التي ترى نفسها معنية بما يجري في لبنان يقول نحاس: استعملتم بلدنا كساحة لتصفية الحسابات بينكم، وكحالة تستوجب الضبط، وفي كلا الحالتين كان تدخلكم ضدّ مصالح مجتمعنا وأطال أمد نظام فاشل. بناء على معرفتنا بالواقع وبحسابات اللاعبين نتخوف جدياً من أن يكون مؤتمر سيدر حلقة من هذه الحلقات. «ليس أكيداً أن أحداً يستطيع أن ينأى بنفسه عن نتائج الفوضى إذا وصلت إلينا».

مهمة إنقاذ تعويضات الأجراء في الضمان

من أحد أبرز الأمثلة التي يتحدّث شربل نحاس عن إنقاذها هي مدخرات العمال في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. في نهاية 2016 بلغت قيمة الأموال الإجمالية في فرع تعويضات نهاية الخدمة في الضمان 12500 مليار ليرة، من بينها 10500 مليار ليرة موظفة في سندات الخزينة ومجمّدة لدى المصارف، إضافة إلى ديون متوجبة لهذا الفرع على فرع المرض والأمومة بقيمة 1730 مليار ليرة، وديون على فرع التعويضات العائلية بقيمة 275 مليار ليرة، وبعض المطلوبات الأخرى. في حال حصول أي اهتزاز نقدي أو مالي، قد تذوب هذه المدخرات. ومن باب الاحتراز، يجب أن نعلم ما سيكون مصيرها في حال حصول تصحيح إرادي. التصحيح الإرادي يعني خفض طوعي لسعر صرف الليرة بالتوافق بين الدائنين والمدينين. ما سيصيب هذه الأموال لن يضرّ العمّال فقط، بل سيضرّ أيضاً بالمؤسسات التي ستدفع تسويات عليها مع نهاية خدمة الأجراء.