كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
استقطب الوضع المالي المأزوم حركة استعلام ناشطة من ممثلي الصناديق الاستثمارية العالمية التي تستثمر في سندات اليوروبوندز. من أبرزهم «بلاك روك» الذي يحمل سندات لبنانية بقيمة مليار دولار، وهو يتشارك مع الصناديق هواجس بشأن قدرة الحكومة اللبنانية على تسديد الاستحقاقات في 2018 و2019، ومدى قدرتها على الفوز بثقة المستثمرين الأجانب لتجديد الديون
لا تزال أزمة تدهور أسعار سندات اليوروبوندز تثير الكثير من الشكوك حول قدرة الحكومة ومصرف لبنان على السيطرة عليها. من أجل هذا الأمر، جاء إلى لبنان عدد من ممثلي الصناديق الاستثمارية التي تحمل سندات يوروبوندز للاطلاع على مدى جديّة مخاطر الاستثمار في هذه السندات، وقياس منسوب «الثقة» التي يمكن أن يضعها هؤلاء في الوضع المالي اللبناني بما يتيح لهم اتخاذ قرار بشأن الاستمرار في حمل سندات اليوروبوندز، أو زيادة قيمة الاستثمار في الاكتتابات المقبلة في 2019.
عجقة صناديق
وصل إلى لبنان أمس وفد من المستثمرين في هذه السندات بقيادة «غولدمان ساكس». هذا الوفد يعدّ الأبرز بين ممثلي الصناديق الاستثمارية العالمية التي جاءت إلى لبنان أو ستأتي قريباً، لأنه يضمّ صندوق «بلاك روك» الذي يعدّ أكبر مستثمر أجنبي في السندات اللبنانية، والصناديق المنضوية ضمن هذا الوفد تحمل سندات خزينة بقيمة 1.2 مليار دولار، أي ما يوازي 17% من مجمل السندات التي يحملها الأجانب والبالغة 7 مليارات دولار وفق إحصاءات «غولدمان ساكس».
يضمّ الوفد ثلاثة من كبرى الصناديق الاستثمارية العالمية، هي: «بلاك روك» الذي يدير أصولاً بقيمة 6 تريليونات دولار، ويتردّد أنه يحمل في محفظته سندات يوروبوندز بقيمة مليار دولار، «اليانز»، «أي بي جي»، «براندي واين»، وهؤلاء الثلاثة يحملون في محفظتهم سندات بقيمة 200 مليون دولار، وفق مصادر مطلعة.
الزيارة نظّمها «غولدمان ساكس» بالتعاون مع «سوسييتيه جنرال بنك». الأول يمثّل المستشار المالي لصندوق «بلاك روك» ويقال إنه هو الذي نصح هذا الصندوق بأن يستثمر هذه الكمية في سندات الخزينة اللبنانية بالعملات الأجنبية (يوروبوندز). و«غولدمان ساكس» لديه علاقات تجارية واستثمارية واسعة مع «سوسييتيه جنرال بنك»، من خلال استثمار مبالغ كبيرة في الهندسات المالية التي نفذها مصرف لبنان في 2016 والتي حققت للاثنين أرباحاً هائلة.
ومنذ نحو أسبوعين جاء وفد بقيادة «بنك عودة» يضم ممثلين عن 11 صندوقاً استثمارياً، من أبرزها «برودانشيل»، «إيتم فانز»، «تي سي دابليو»، «لازار»… ويتوقع أن يصل إلى لبنان وفدان آخران من صندوق «أفردين» للاستثمار، ومن مصرف «جي بي مورغن» أيضاً.
تقييم دوري أو هواجس الأزمة؟
لا شكّ في أن ممثلي الصناديق الاستثمارية يزورون لبنان دورياً لإجراء التقييم المالي اللازم لاستثماراتهم في سندات اليوروبوندز. إلا أن هذه الزيارات كان لها طابع مختلف، ولا سيما أنها جاءت بتنظيم من بعض المصارف اللبنانية التي تسعى للتخفيف من وطأة الأوضاع المالية في لبنان، ولأنها تحمل هواجس وأسئلة أثيرت في الصحافة الأجنبية خلال الأسابيع الماضية، فضلاً عن الاهتمام الفرنسي بالتباطؤ اللبناني في تأليف الحكومة وتنفيذ بنود مؤتمر «باريس 4».
وهناك سبب إضافي كافٍ لاستقطاب الاهتمام أيضاً، وهو أن الوفد الذي وصل إلى لبنان أمس وزار رئيس الحكومة ومصرف لبنان ووزارة المال وعدداً من المصارف، هو الأكبر لجهة قيمة الاستثمارات التي يحملها، وبينه أكبر صندوق استثماري أجنبي يحمل سندات لبنانية («بلاك روك»).
وبحسب مصادر مطلعة، فإن الهواجس التي حملتها الزيارة لا تختلف كثيراً عمّا أثاره ممثلو الصناديق الذين جاؤوا سابقاً إلى لبنان (أو أولئك الذين سيأتون قريباً). فقد تبيّن أن قسماً كبيراً من استثمارات هذه الصناديق يكمن في سندات اليوروبوندز التي تستحق في 2018 و2019. لذلك، هناك تركيز على قدرة الحكومة على الإيفاء بديونها، انطلاقاً من عمليات البيع التي طاولت هذه السندات المعروضة في السوق العالمية وتراجع أسعارها بين تشرين الثاني 2017 ونهاية تشرين الأول 2018.
الصناديق الاستثمارية قلقة من أنه لن يكون بإمكان الحكومة اللبنانية إقناع حاملي السندات بتجديد اكتتاباتهم في الإصدارات الجديدة، حتى لو كانت لديها القدرة على الإيفاء بالاستحقاقات، وأنه إذا لم يكن لديها القدرة على استقطاب تمويل جديد، فهذا يعني أن الثقة الأجنبية بالوضع اللبناني تتضاءل. هم يبحثون عن عوامل الثقة بالحكومة اللبنانية ويقيسون مستوى المخاطر السياسية والاقتصادية والنقدية بتوظيفات أموالهم «المجزية» حتى الآن. ثقتهم قد لا تكون مهتزّة، ولكنهم يبحثون عن طمأنات، أو ربما بعض من الضمانات للاستمرار في حمل محفظة من السندات تتيح لهم القيام بعمليات مضاربة مربحة. المؤشّر الذي يدرسه ممثلو الصناديق هو مدى قدرة الدولة على الحدّ من نزف الدولارات الذي تعرض له مصرف لبنان منذ تشرين الثاني 2017 إلى اليوم، وسط أزمة عدم تأليف حكومة وقفزات في عجز الموازنة وزيادة الإنفاق التشغيلي – السياسي.
طمأنات فوق مخاطر
المؤشّر الوحيد الذي حصدته زيارات الصناديق للبنان يكمن في الاحتياطات بالعملات الأجنبية التي بلغت في تموز الماضي 44 مليار دولار. سمعوا طمأنات عن أن الأزمة التي يمرّ بها لبنان لن توصله إلى مرحلة التخلف عن سداد الديون، وأن لبنان «يملك تاريخاً ممتازاً من الإيفاء بالديون»، رغم كل الأزمات التي مرّ بها… باختصار، هم سمعوا المعزوفة ذاتها مع فرق وحيد، أن هناك اعترافاً بأن الأزمة المالية هذه المرّة أقوى من غيرها، ولكنها قابلة للسيطرة.
عند هذا الحدّ، فإن هؤلاء المضاربين يبحثون عن أرباح إضافية من المال العام، وهم يستغلون حاجة الخزينة لهم، وتوسّعها في زيادة نسبة الدين بالعملات الأجنبية على حساب تقليص الدين بالليرة اللبنانية. مخاطر هذا الأمر واضحة للجميع، فالدين بالدولار أرخص مادياً، لكنه مكلف في إدارته لأنه يرتبط بمعادلات مالية وسياسات إقليمية ودولية. مخاطر الاستدانة بالدولار كبيرة، لا لأنها ترتبط بالمخاطر السياسية الإقليمية والدولية، ولكن لأن لبنان يعتمد أصلاً على استقطاب العملات الأجنبية من الخارج (الرساميل)، وبالتالي إن الشحّ في دخول هذه الرساميل يرفع من مستوى المخاطر إلى جانب القنبلة الموقوتة التي يحملها بين يديه، والكامنة في عجز في الميزان التجاري بقيمة تفوق 17 مليار دولار سنوياً، فلبنان يستورد بأكثر من 20 مليار دولار ويصدّر بأقل من 3 مليارات دولار. هذا يعني أن كل ليرة تُضَخّ في السوق سيكون في مقابلها طلب على الدولار يضغط على احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. هذا هو السبب الفعلي وراء توقف مصرف لبنان عن ضخّ سيولة لدعم القروض السكنية، وهذا السبب وراء امتصاص القسم الأكبر من السيولة بالليرة وبالدولار بين يديه وتعقيمها بكلفة بالغة حتى يتحكّم بالنزف الدولاري. شراء الوقت بهذه الطريقة ليس مكلفاً فحسب، بل بات أمراً عقيماً بلا أفق.