كتب علي الأمين في صحيفة “العرب” اللندنية:
ليس الخلاف على تشكيل الحكومة في لبنان هو بسبب تنازع على حصرية السلاح بيد الدولة أو عدم حصريته، ولا يتصل أيضا بمدى تطبيق سياسة النأي بالنفس تجاه الأزمات الإقليمية في العالم العربي أو عدم تطبيقها، ولا الخلاف هو على مطلب انسحاب مقاتلي حزب الله من الأراضي السورية أو عدم انسحابهم، فالحكومة التي ينهمك أطراف السلطة بحجز مقاعدهم في قاطرتها لم تقلع بعد، وعملية التأليف لم تزل عرضة لمطالب متنافرة في الحصص بين أطراف سياسية عدة، ورغم تصريحات التفاؤل التي أطلقت خلال الأشهر الخمسة الماضية من عمر التأليف، إلا أن عربة الحكومة لا تزال متوقفة من دون أي موعد نهائي، إمّا للتأليف وإما لاعتذار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري عن استمراره في محاولات التأليف.
الانقسام والخلاف لم يعد متصلا بقضايا من قبيل ما رفعت قوى 14 آذار (التي كانت وتلاشت) من شعارات السيادة والاستقلال ووضع سلاح حزب الله تحت سلطة الدولة، أو ما كانت تعلنه قوى 8 آذار التي يختصرها فعليا حزب الله عن بقاء سلاح المقاومة ومنع المساس به حتى قيام الدولة العادلة والقوية، كما كان يردد مسؤولو حزب الله، رغم إدراك الجميع أن لا قيام لدولة قوية عادلة، مع بقاء ثنائية السلاح الشرعي وغير الشرعي، وثنائية الدولة والدويلة.
لم تعد تلك القضايا هي ما يعيق تشكيل الحكومات، أو يؤخر تأليفها كما كان يحصل في السنوات السابقة ومنذ عام 2005، حيث كانت الجهود تنصب حينذاك، على إيجاد التسوية الملائمة لجميع الأطراف في صيغة البيان الحكومي، أما اليوم فلا الرئيس الحريري يطالب بحلّ لسلاح حزب الله ولا رئيس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، يطالب بانسحاب حزب الله من سوريا أو تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بهذا الشأن، رغم ذلك لم ينعكس هذا التنازل السيادي من قبل من كانوا ضمن الفريق السيادي في السلطة، أو ما كان يسمى قوى 14 آذار، تسهيلا لعملية إدارة شؤون الدولة وتأليف الحكومة.
يعلم الجميع أن ما سمي “التسوية” التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيسا للجمهورية قبل عامين، تضمنت وضع الملفات الخلافية ذات البعد الإقليمي جانبا، أي سلاح حزب الله ومشاركته في الحرب السورية. وتم ذلك على قاعدة أن الخلاف حولها هو ما كان يعطل تسيير شؤون المواطنين، ولكن رغم تحييد هذه القضايا السيادية، بقي الحال على ما هو عليه، لجهة العجز عن تشكيل الحكومة، بل حتى في تسيير شؤون الدولة بالحد الأدنى من الحرص والكفاءة والمسؤولية، ومع تهميش العناوين السيادية برزت شراهة عالية لدى القوى السياسية في السلطة للاستحواذ على ما طالت أيديهم من المال العام.
فعندما يتم تهميش الحياة السياسية في عناوينها الوطنية، أو يتم التواطؤ على تحييدها، كما حصل في لبنان مع وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، تصاب الحياة السياسية بخلل جوهري، وتختل لصالح مسارات مختلفة في الصراع، يختصرها التنازع على الحصص سواء في الحكومة أو في ظاهرة التوظيفات غير القانونية وغير المبررة في القطاع العام، لتصبح المنافسة حول من يستطيع أن يدخل عددا أكبر من محازبيه أو أتباعه إلى الوظيفة العامة، ودائما مع تغييب معيار الكفاءة وعبر الإطاحة بمعيار المساواة بين المواطنين، وبتعزيز معيار المحسوبية في القطاع العام، الذي بات مثقلا بعشرات الآلاف من الموظفين غير المنتجين ومترعا بالفساد، ومكللا بالعجز عن القيام بدوره.
إذا كان البعض في لبنان اعتبر، واهما أو بفعل الاستسلام، أن ثمة إمكانية لبناء الدولة في ظل تغييب مفاهيم وشروط أساسية لقيام أيّ دولة وتقدمها، فإنه لا بدّ أنه أدرك اليوم أن ذلك ليس صحيحا بل مدمّرا لما تبقى من الدولة
ليس هذا فحسب، فمع غياب الحياة السياسية أو تغييبها، تنهمك القوى السياسية بالبحث عن مغانم عبر الصراع على الصفقات في قطاع الكهرباء أو النفط، وصولا إلى النفايات التي لا تزال تشكل مثالا صارخا في تقاسم منافعه عبر التلزيمات المشبوهة، وبابتداع مشاريع وهمية أو غير قابلة للتنفيذ، بل مشاريع هدفها أن تفاقم الأزمة، من أجل أن يبقى ملف النفايات مصدرا من مصادر نهب الخزينة العامة.
حتى الجامعة اللبنانية، وهي الجامعة العامة، باتت عرضة للانتهاك بما يخلُّ بمستواها الأكاديمي، وتحولت من جامعة تخضع إلى حدّ بعيد لسلطة أكاديمية، إلى مجال لتقاسم النفوذ بين أقطاب السلطة، فالتعيينات في الجامعة فضلا عن الدخول إلى فضائها الأكاديمي، يقرره معيار المحاصصة لا الكفاءة ولا السيرة العلمية أو الأكاديمية، وهو ما جعلها تفقد دورها الأكاديمي والوطني لحساب تقاسم الكليات والفروع بين القوى الحزبية السلطوية والطائفية.
هذا غيض من فيض الحياة السياسية اللبنانية، التي صارت أسيرة منطق المحاصصة وتقاسم المنافع، بعد تغييب كامل للقضايا الوطنية الكبرى التي تتصل بمفهوم الدولة والهوية الوطنية ووحدة الشعب.
فعندما يجري تهميش السيادة وتهشيمها، ويتمّ الإقرار بذلك وتقبله من قبل أطراف السلطة، وعندما تصبح الدعوة إلى تولي القوى العسكرية والأمنية الرسمية حماية الدولة خيانة وطنية، وعندما تتمّ عملية نهب المال العام من قبل أطراف السلطة وبشكل منظم ومدروس ومقصود، وعندما يصبح شرط المواطنة ليس الالتزام بموجبات القانون، بل الاستزلام لأطراف السلطة وعلى حساب القانون هو معيار المواطنة، فإن كل ذلك وغيره سيجعل الدولة في وضعية مختلة ومنتهكة ومسلوبة الإرادة.
وإذا كان البعض في لبنان اعتبر، واهما أو بفعل الاستسلام، أن ثمة إمكانية لبناء الدولة في ظل تغييب مفاهيم وشروط أساسية لقيام أيّ دولة وتقدمها، فإنه لا بدّ أنه أدرك اليوم أن ذلك ليس صحيحا بل مدمّرا لما تبقى من الدولة.
فالدولة لا تستمر ولن تصمد إذا بقيت أسيرة الثنائيات الدولة- الدويلة، أو السلاح الشرعي- السلاح غير الشرعي، بل في أسر ثنائية الولاء للوطن والدولة- الولاء للخارج، في بلد تسمح سلطته بأن يحكمها من يعتبر أن ولاءه لدولة خارجية (كما هو حال حزب الله) يتقدم على انتمائه وولائه لدولته ووطنه، فتلك هي الكارثة التي لا مجال لتفاديها وهذا ما يعانيه لبنان اليوم.
من دون العودة إلى الثوابت الأساسية للدولة ومقتضيات الانتماء للوطن، ومن دون قيام حياة سياسية على شرط السيادة والاستقلال ووحدة الشعب، فإن العجز لن يقتصر على عدم القدرة على تشكيل حكومة فحسب، بل سيكون كفيلا بالانهيار السياسي والاجتماعي فضلا عن الانهيار المالي والاقتصادي الذي بات وشيكا كما يقرّ أهل السلطة في لبنان أنفسهم قبل المواطنين الذين يعلمون ويشعرون كيف يضيق عليهم الخناق.