كتبت راكيل عتيق في “الجمهورية”:
في لبنان، الاستثناء يُصبح قاعدة، واتّخاذ المواقف وفق ضرورات وطنية لا محظورات طائفية يتحوّل سابقة. من هذه السوابق ما بعد «اتفاق الطائف»، قبول رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري إنعقاد المجلس النيابي في جلسة تشريعية وتغطيتها بـ«الشرعيّة السنيّة» التي تُسحب عادةً عن أيّ تشريع في ظلّ حكومة تصريف أعمال «ضعيفة». إنّها حرب الحفاظ على المواقع ـ الطوائف.
الحريري «غطّى» التشريع بشرط تشريع القوانين المُتعلِّقة بمؤتمر «سيدر». هو أكثر من يعي مدى سوء الوضع الاقتصادي، و»العالِم الأكبر» بحجم العراقيل التي قد تؤخِّر ولادة الحكومة، ربّما إلى ما بعد الشهر التاسع… وبالتالي «البلد بدو يمشي» وعجلته الاقتصادية في حاجة إلى «وقود» القروض الدولية لكي تسير.
الغطاء الشرعي للجلسة لا يتحقق إلّا بحضوره. في الجلسة التشريعية العامة التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري في 24 و25 أيلول المنصرم، حضر الحريري نائباً وجلس على كرسيه بين النواب، فسارع بري إلى مناداته ليجلس على كرسي رئيس الحكومة، متوجّهاً إليه قائلاً: «ما صدّقنا جبناك لهون».
الجلسة التشريعية الأخيرة عُقِدت وفق اتفاق مُسبق بين كلّ من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وبري والحريري، وشمل الاتفاق توقيع كلّ من عون والحريري القوانين ونشرها في حال تأخّر تأليف الحكومة الجديدة، حسب ما تؤكّد مصادر مواكبة لـ«الجمهورية».
حسب الدستور، يُصدر رئيس الجمهورية القوانين وفق المهل المحددة، بعد أن يكون وافق المجلس عليها، ويطلب نشرها. كذلك، يشترك رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية في توقيع مرسوم إصدار القوانين.
«الضرورات تبيح المحظورات»، فحتّى توقيع «رئيس حكومة سني» يُصرِّف الأعمال القوانين غير مُحبّذ. على مقدار المتاهات الدستورية الكامنة في الدستور اللبناني، تزيد التجاذبات الطائفية ـ الحزبية متاهاتٍ سياسية.
جدل بيزنطي دستوري – سياسي حسمه عون وبري والحريري في هذه المرحلة السياسية، «خوفاً على البلد» أو «خوفاً على عهدهم وحكمهم»، ويقضي الإتفاق بتسيير شؤون البلاد بالحد الأدنى وعدم شلّ كل المؤسسات.
أمام أبواب الحلحلة الحكومية الموصدة، ليس في يد بري إلّا فتح أبواب المجلس على التشريع. بعد جلسة التشريع الأولى في ظل حكومة الحريري الأولى في عهد عون، والمُستقيلة، أكّد بري في «لقاء الأربعاء» النيابي الأسبوع الماضي أنّه في حال لم تؤلَّف الحكومة في غضون الأيام العشرة المقبلة فإنّه سيدعو إلى جلسة تشريعية قبل نهاية الشهر الجاري. وفي الموازاة يُبقي المجلس أبوابه مفتوحة، لجلسات اللجان.
في حين، كان يُقرأ دائماً في دعوة رئيس مجلس النواب الى جلسة تشريعية في وجود حكومة تصريف أعمال، بأنّه «تهديد» أو «ابتزاز» لرئيس الحكومة، أو «استعلاء واستقواء شيعي» على رئيس حكومة سني موقعه ضعيف و«يُصرّف الأعمال فقط»، لا يبدو أنّ هذه غاية بري من الدعوة إلى جلسة، فهو مؤيِّد للحريري ومتمسِّك به كرئيس حكومة، وكان أوّل المُسهِّلين في عملية التأليف والمطالب الوزارية.
ويرى متابعون أنّ «البلد بحاجة إلى مؤشّر إلى أنّ هناك دولة، ومن المؤشرات عقد جلسة تشريعية لأنّ المؤسسات مجمّدة ومُعطَّلة، وتُعتبر هذه الجلسة من مؤشرات بقاء المؤسسات وضخ الحيوية فيها لأنّ الحكومة مُعتبرة مستقيلة وهي حكومة تصريف أعمال».
ويُلاحظ هؤلاء أنّ «المبادرة إلى عقد جلسة، بغض النظر إن كانت التشريعات مهمة أو غير مهمة، هي مجرّد عملية إظهار بعض الحيوية ونوع من تأكيد وجود المؤسسات. فهي شكلية أكثر منها فعلية، فأهمية القوانين التي طُرحت في الجلسة الأولى ثانوية، باستثناء المتعلقة منها بمؤتمر «سيدر». لكنها مؤشر الى وجود حد أدنى من المؤسسات في البلد، لأنّ التعطيل هو القاعدة المعمول بها وسارية المفعول».
ويشير هؤلاء إلى أنّ هناك «مقابل هذه الجلسة، وضع الشارع، إحتجاجات ومطالب، خصوصاً تحرّكات الأساتذة والوضع الجامعي عند بدء السنة الدراسية، ما يُشكّل تحدّياً للبقية الباقية من السلطة القائمة».
متابعون لمسار عمل المؤسسات، يرون أنّ الحريري «مِشي» بالجلسة تحت عنوان «تشريع الضرورة»، ولو لم يكن هناك من ضرورات لما «مَشى بالجلسة». وبمعزل عن ذلك، قبول الحريري لا يُعتبر تكريساً للتشريع في ظل حكومة مستقيلة، وما قَبِل به قد لا يقبل به رؤساء حكومات في المستقبل تماماً كما لم يقبل به رؤساء حكومات سابقين كالرئيس نجيب ميقاتي.
وفي الإطار الدستوري البحت يوضح الوزير والنائب السابق المرجع الدستوري إدمون رزق لـ«الجمهورية» أنّ المجلس النيابي سيّد نفسه ويستطيع القيام بنشاطه وأداء عمله التشريعي والرقابي، على رغم اعتبار الحكومة مستقيلة، لأنّ المشترع الدستوري عندما أقرّ فتح دورة حُكماً عند اعتبار الحكومة مستقيلة وعند شغور مركز رئاسة الجمهورية، أكّد أنّ للمجلس النيابي دوراً رقابياً وتشريعياً، ويُمكنه القيام بما يريده خلال جلساته. (المادة 69 من الدستور: عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة).
ويؤكّد رزق أنّ عبارة «تشريع الضرورة» بدعة، فـ «لماذا البحث عن حجة لتعريف التشريع بتشريع الضرورة، وكل تشريع ضروري. فالتشريع غير مرهون بالأعراف، بل مرتبط بالنصوص. الجلسة أداء طبيعي لمجلس النواب، لا بدعة، لأنّ هناك دورة وهناك موجب. المشترع الدستوري تدارك الشغور واعتبر أنّ لمجلس النواب دوراً في هذه المرحلة ليس فقط عند تأليف الحكومة إنما أيضاً عند «عدم تأليف الحكومة»، والدور الرقابي والتشريعي للمجلس يكون مستمراً ومتواصلًا خلال هذه المرحلة».
وإذ يشدّد على أنّ «المجلس النيابي يمكنه اتخاذ أي قرار ضمن الدستور ونظامه الداخلي»، يشرح رزق أنّ «الدستور أقرّ فتح الدورة لأنها ضرورة، ولكنه لم يقل إنّه يجب أن يكون هناك ضرورات معيّنة للعمل. ولا يُمكن تصنيف التشريع، فالتصنيف بدعة. وتشريع الضرورة إبتكار وتعبير غير دستوري». ويشير إلى أنّ «التشريع صلاحية ذاتية للمجلس يمارسها حين تكون هناك دورة، وإلّا ما الحكمة من فتح دورة؟».
مجلس النواب حالياً في دورة مفتوحة إلى حين تأليف الحكومة، وبذلك يُمكن لبري إبقاء أبواب المجلس مُشرَّعة. بعد أن غادر بري لبنان إلى جنيف الأسبوع الماضي، للمشاركة في مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي، قد يحطّ الرحال في بيروت هذا الأسبوع ولا تكون الحكومة قد تمخّضت بعد، وإن سُمع «طَلَق» الولادة، سيقطع بري سفره ويعود على عجل، إذ إنّه ينتظر المولود الجديد بفارغ الصبر، حسب ما تؤكّد مصادر قريبة منه لـ«الجمهورية». وإن عاد، ووجد أنّ المشهدية مُجمّدة، فهو بالجلسة سائرٌ.
فهل سيفعلها الحريري مجدداً، ويقبل بعقد جلسة تشريعية ثانية في ظل ترؤسه حكومة مستقيلة؟ تجيب مصادر تيّار «المستقبل»: «بالتشاور بين بري والحريري «بتمشي» الجلسة، فهناك أمورٌ وشؤونٌ كثيرة تتطلّب تسييرها، والحريري لن يجمّدها في انتظار تأليف الحكومة».
وتؤكّد هذه المصادر لـ«الجمهورية» أنّ الحريري سيوقِّع القوانين لنشرها إذا أحالها بري إلى عون، على رغم من أنّه ما زال يراهن على تأليف الحكومة خلال فترة قصيرة وعندها لا حاجة الى هذه «البرمة”.