كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
عقبتان تعترضان إعادة العمل بالقروض السكنية المدعومة عبر المؤسسة العامة للإسكان. الأولى مرتبطة بمصرف لبنان الذي حدّد سقفاً للاستدانة بالليرة تبيّن أن غالبية المصارف تخطّته. والثانية تكمن في مستوى الفوائد المدعومة الذي سيتفق عليه بين المصارف والمؤسسة في ظل ارتفاع معدلات الفائدة على التسليفات بالليرة إلى ما لا يقل عن 12%.
لإعادة إطلاق القروض السكنية المدعومة، ليس على مصرف لبنان وجمعية المصارف إلا ملاقاة المؤسسة العامة للإسكان في منتصف الطريق. ما يحدث، عملياً، بعدما حصلت المؤسسة على اعتماد مالي بقيمة 100 مليار ليرة لدعم هذه القروض، أن مصرف لبنان يسعى، بكل الطرق المتاحة، لمنعها من ذلك، فيما تبحث جمعية المصارف عن طريقة لـ«شفط» هذه الأموال من دون أن تتنازل عن جزء من ربحيتها.
مجلس النواب، في جلسة «تشريع الضرورة» الشهر الماضي، أقرّ منح المؤسسة اعتماداً مالياً بقيمة 100 مليار ليرة لدعم القروض السكنية مؤقتاً، في انتظار أن إقرار الحكومة سياسة اسكانية تحدّد من خلالها آليات الدعم المستدامة. لكن المشكلة التي واجهت المؤسسة أن «المركزي» استبق القرار بإصدار التعميم 503 على المصارف، والذي ينص على أنه «لا يجوز أن يزيد صافي التسليفات الممنوحة من المصرف للقطاع الخاص بالليرة اللبنانية عن 25% من مجموع ودائع الزبائن لديه بالليرة اللبنانية. ويتوجب على المصارف إيداع قيمة كل فرق يزيد عن النسبة المحدّدة في حساب مجمّد لدى مصرف لبنان لا ينتج فوائد، لحين تسوية هذا التجاوز. وتمنح المصارف التي تكون في وضع مخالف مهلة حدّها الأقصى 31/12/2019 لتسوية أوضاعها. ويمكن للمصارف التي يتعذر عليها تسوية أوضاعها خلال هذه المهلة، مراجعة المجلس المركزي بهذا الشأن».
وقد تبيّن، بحسب النشرة الشهرية لمصرف لبنان عن شهر تموز 2018، أن نسبة تسليفات المصارف بالليرة تبلغ 32.7% من مجمل الودائع بالليرة، ما يعني أن المصارف لن تكون قادرة على إعطاء أي تسليفات جديدة إلا في حال حصول أمرين: أن تخفض تسليفاتها بالليرة إلى ما دون المعدل المطلوب من مصرف لبنان، أو أن ترفع مجموع ودائعها بالليرة لتخفض نسبة التسليفات إلى الحدود المطلوبة.
المصارف حاولت مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الحصول على إعفاء من هذا السقف محصور بالقروض السكنية، إلا أنه رفض بحجّة أن القروض بالليرة تشكّل ضغطاً على سعر صرف الليرة مقابل الدولار. إذ أن كل ليرة تنفق على شراء منزل يتحوّل قسم كبير منها إلى طلب على الدولار، لأن غالبية المواد المستعملة في تشييد الشقق مستوردة ويدفع التاجر ثمنها بالدولار.
هكذا، تبدّدت فسحة الأمل بعودة القروض السكنية المدعومة. وتعزّز هذا المشهد السوداوي بعدما تبيّن أن آلية الدعم الجديدة تتطلب منتجاً جديداً غير ذلك الذي كانت تقدّمه المؤسسة وفق آليات الدعم السابقة. إذ كانت تقسم القرض إلى فترتين زمنيتين بحدّ أقصى 15 سنة لكل منهما، وتقتطع من القرض نسبة 10% تستعمل لدفع الفائدة عن المقترض خلال الفترة الأولى من القرض. وفي هذه الفترة كان الزبون يدفع أصل القرض، على أن يردّ للمؤسسة في الفترة الثانية من مدة القرض ما سدّدته عنه.
أما اليوم فقد أصبح الوضع مختلفاً في ظل التغيرات في آلية الدعم وتغيرات أسعار الفائدة. فبالنسبة للمدّة الزمنية، لم يعد بالإمكان تقسيم القرض إلى فترتين، بل بات يتوجب أن يكون على فترة 25 سنة أصلاً وفائدة. والسبب أن الآلية السابقة كانت تفرض على المؤسسة أن تعاني من نقص في السيولة التي تستعملها لتسدد عن الزبائن كلفة الفائدة. أما حالياً، فليس بإمكانها أن تزيد من معاناتها في ظل محدودية الدعم الذي حصلت عليه، وبالتالي عليها أن تتوصل إلى اتفاق مع المصارف على منتج جديد.
أما بالنسبة إلى أسعار الفوائد، فقد ارتفعت على التسليفات بالليرة إلى 12% كحدّ أدنى، فيما كانت في السابق لا تتجاوز 9%. وفق آلية الدعم السابقة، كانت كلفة القرض على الزبون لا تتجاوز 5%، لكن ارتفاع أسعار الفائدة، فرض على المؤسسة الاختيار بين إنفاق مبلغ كبير للحفاظ على استقرار الكلفة على الزبون بما يعنيه ذلك من تقليص عدد القروض الممنوحة بالاستناد إلى قيمة الدعم الذي حصلت عليه (100 مليار ليرة). أو أن تحمّل الزبون الفرق في ارتفاع أسعار الفائدة، بما يعنيه ذلك من كلفة إضافية عليه.
هي معادلة ثلاثية يجب أن تتوازن فيها ثلاثة عناصر: قيمة المبلغ المخصص للدعم، معدلات الفائدة، عدد القروض الممنوحة. كلما ارتفع سعر الفائدة بات يتوجب تقليص عدد القروض، أو رفع قيمة المبلغ المخصص للدعم. وكلما ارتفع عدد القروض يتوجب خفض سعر الفائدة ورفع قيمة المبلغ المخصص للدعم.
في هذا الإطار تبيّن، وفق حسابات أولية، أن رفع الفائدة على المقترض إلى 6.25% سيؤدي إلى مضاعفة قيمة المبلغ الذي يردّه للمصرف على مدى 25 عاماً. وبالتالي فإن تجنيبه هذه الكلفة الباهظة، يفرض خفض معدلات الفائدة إلى مستويات مقبولة. ففي السابق كانت الكلفة الإجمالية على الزبون تصل إلى حدود 135% من أصل القرض.
إذاً، بأي كلفة دعم يمكن المؤسسة أن تمنح قروضاً سكنية مدعومة لأوسع فئة من المقترضين في ظل ارتفاع الطلب على القروض السكنية من 5 آلاف سنوياً إلى ما لا يقل عن 8000، بعدما بات على الجهات التي كانت لديها بروتوكولات مع المصارف، أن تلجأ حصرياً إلى المؤسسة دون سواها؟
الإجابة على هذا السؤال رهن المفاوضات الشاقة التي تخوضها المؤسسة مع المصارف. فإذا تنازلت المصارف عن جزء من ربحيتها يمكن توسيع مروحة الدعم ليشمل 4000 قرض، أما إذا أظهرت تعنّتاً فإنها ستفرض خفضاً قسرياً لعدد القروض الممنوحة للزبائن. وهذا ما سيخلق حالاً من التوتّر في السوق بسبب التنافس الذي يمكن أن تخلقه هذه الآلية بين الزبائن والمصارف في بلد تلعب فيه «الوساطة» و«المعرفة» دوراً كبيراً في المفاضلة بين هذا الزبون وذاك. في هذه الحال قد لا يصل جزء كبير من الدعم إلى مستحقيه، أو قد يخلق تنافساً غير مشروع بين مستحقي الدعم، على افتراض أن الدعم عبر المؤسسة العامة للإسكان مخصص للطبقتين الوسطى ــ الدنيا والفقيرة.
الأسوأ من ذلك كلّه، أن هذه المشكلة قد تؤسّس للمعالجات المستدامة في مسألة القروض السكنية المدعومة، لأن كل الحلول المقترحة تتطلب تمويلاً من المصارف، وهذا التمويل يأتي بكلفة باهظة.