كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
في لبنان دولتان: دولة الامن يقيم فيها الجيش والادارات العسكرية والامنية، ودولة السياسة يسرح فيها المسؤولون والسياسيون. الاولى تحظى بثقة الناس لتوفيرها الاستقرار، والثانية بلعنتهم بسبب تناحرهم وتهاوي الاقتصاد واستفحال الفساد
يسمع قائد الجيش العماد جوزف عون كلاماً مشابهاً، عندما يُشتكى لديه من الازمات السياسية وضيق الحال المعيشية والتردي الاقتصادي. الا انه يكتفي بالقول ان مسؤولية المؤسسة العسكرية والاسلاك الامنية توفير الاستقرار للبلاد كي تتولى السلطات ادارة ملفات السياسة والاقتصاد في امان. لا تملك الادارات العسكرية والامنية سوى ان تطلع المسؤولين على تقديرها، تبعاً للمعطيات المتوافرة لديها، عن مآل الوضع الداخلي.
عندما يفصل الجيش الشق العسكري والامني ــــ وهما مسؤوليته المباشرة ــــ عن الشق السياسي المعني به الآخرون، يفصح عن الآتي:
1 ــــ بعد عملية «فجر الجرود» في 19 آب 2017، لم تعد المواجهة مع الارهاب عسكرية بمفهومها التقليدي باستخدام الدبابات والطيران والآليات الثقيلة والمشاة. الاهتمام يتركز اليوم على العمل الامني واعمال الدهم في اتجاهات مختلفة حيال الارهاب والمتسبّبين في الاضطرابات وتجار المخدرات. وهو ما يمكن العثور عليه كل يوم في كل مكان، وفي اي دولة كبيرة او صغيرة.
2 ــــ يستمد الجيش قوته من انه صاحب القرار العسكري، يحدد توقيته انطلاقاً من الثقة التي تمحضه اياها السلطات السياسية. لم تكن انقضت اشهر قليلة على تعيينه قائداً للجيش في آذار 2017، عندما اتخذ العماد جوزف عون قرار انهاء الوجود العسكري لتنظيم «داعش» في الجرود الشرقية. جمع الاركان ومديرية المخابرات لمناقشة التوقيت الصائب ــــ وكان كذلك آنذاك ــــ وإتخذ القرار قبل ان يجول على الرؤساء الثلاثة ويخطرهم به، بعدما بات الجيش جاهزاً. اتى على الاثر اجتماع المجلس الاعلى للدفاع غطاء سياسياً لقرار عسكري متخذ في اليرزة.
3 ــــ ليس ثمة تهديدات عسكرية يجبهها الجيش بعد اليوم على الجبهة الشرقية، على غرار ما كان يحدث قبل «فجر الجرود». الا ان المهمات الامنية مستمرة بسبب توقّع وجود خلايا نائمة مرتبطة بشبكات ارهابية، كون هذه عابرة للحدود والقارات، هي المسماة «ذئاب منفردة». تبدأ بسكين ولا تنتهي بهجمات انتحارية. ثمة دور اساسي تضطلع به مديرية المخابرات في الداخل في هذا النطاق، كما في تبادل المعلومات وتعاونها مع الدول التي تواجه التهديدات نفسها.
4 ــــ مع انها ليست مهمة الجيش ولا دوره، الا ان الحملات التي يقوم بها لدهم اوكار تجار مخدرات والمهربين، بالتعاون مع الاجهزة الامنية الاخرى، تؤتي ثمارها بسبب الامكانات الوفيرة التي يتمتع بها، ومقدرته على التحرّك وجمع المعلومات. ما يردّده العماد عون ان الحرب على المخدرات قائمة، والجيش ماض فيها: لا بأس من القول ان المكنسة تجر كل ما يمر بها في حملة التنظيف من هؤلاء. نكون في صدد استعلام في البقاع الشمالي مثلاً او في اي منطقة اخرى يختبئون فيها فنقع على اوكارهم ونطبق عليهم. الامن اولاً. لكنه يؤكد ايضاً ان الجيش يحظى بغطاء سياسي مطلق في هذه المهمات، الى حد ان اياً من المسؤولين والسياسيين والقوى الفاعلة والمؤثرة لم يتدخّل في حملاته على تجار المخدرات، وإن شاع ان لبعض هؤلاء ربما ولاءات حزبية او عشائرية. بحسب ما يردده قائد الجيش: انجزنا المهمات من دون أن نُسأل عن توقيف احد او قتل آخر او التدخل لدينا، او طلب اطلاق اي كان.
5 ــــ لا يتوقف ما يسمعه قائد الجيش، في زياراته الى الخارج كما لدى استقباله وفوداً عسكرية وسياسية اجنبية تبادره بالقول ان حكوماتها تفاخر بـ«الشراكة الاستراتيجية» مع الجيش «الذي يكاد يكون الوحيد في الشرق» تطمئن اليه، وترتاح الى تعاونها معه، و«نجح في مواجهة الارهاب». اكثر ما يُسمَع هذا الكلام من الاميركيين، بدءاً من السفيرة في بيروت مروراً بوزارة الدفاع واعضاء مجلس الشيوخ. بحسب القائد ان لمعركة «فجر الجرود» اثراً مباشراً على اعادة تقويم التعاون العسكري مع الجيش اللبناني لاسباب شتى: اولها نجاحها بحد ادنى من الخسائر في وقت قياسي ابرز الجانب العالي الاحتراف في الجيش. ثانيها انها مثّلت اول تطبيق للتدريبات العسكرية الاميركية عن «المعركة المشتركة» التي يتعاضد فيها اكثر من سلاح، كالمدفعية والطيران، في آن في قيادة منسقة من دون ان تشهد اي اخطاء. ثالثها جدوى الاستثمار العسكري الاميركي في الجيش اللبناني، اذ يفضي الى نتائج ذات فاعلية، فلا تذهب المساعدات هدراً وتُعزّز حجة الاستمرار في التعاون معه ومده بها.
ما يرويه العماد عون: ليس سراً ان خبراء عسكريين اميركيين حضروا الى لبنان في وقت لاحق للاطلاع على الخطة التي اعدها الجيش لتنسيق قتال سلاحي الطيران والمدفعية في «فجر الجرود». أُرسلت الى وزارة الدفاع الاميركية ايضاً شرائط فيديو عن تطوير احدثه الجيش اللبناني على اسلحة اميركية قديمة قدمت اليه مجاناً. احدها قذائف كوبر هيد تعود الى الثمانينات، تمكنت القوات الجوية من تطوير استخدامها من خلال طائرات «سيسنا» وتوجيهها بالليزر، لإصدار الأمر من الارض برميها الى مسافات ابعد من تلك المحددة لها. صار الى تجريبها اكثر من مرة ابان وجود الجماعات الارهابية في عرسال كأهداف ثابتة وتجمعات ومرابض، واخرى متحركة. نجحت التجربة واصابت الاهداف. مذذاك بدأ تدفق هذه القذائف علينا من الاميركيين مجاناً. قدّروا المحاولة بعدما اطلعوا بأنفسهم على شرائط فيديو لتطوير استخدام القذيفة. بعدما كانوا ارسلوا 140 قذيفة هبة، فتحوا لنا المخازن فوصل الينا 2000 قذيفة مجاناً.
دهم تجار المخدرات ليس مهمتنا لكن المكنسة تجرف ما يمر في طريقها
6 ــــ ما يهم الجيش من التعاون مع الاميركيين ليس تعزيز المساعدات العسكرية بل عدم انقطاعها او توقفها. ما يذكره قائد الجيش ان من الضروري عدم التقليل من اهمية وجود لوبي يهودي وافرقاء قد يكون بينهم لبنانيون يتحركون بحجج وهمية مرتبطة بحزب الله لقطع المساعدات او تجميدها. لعل الشهادة الاكبر هي التي قدمها قائد المنطقة الوسطى الجنرال جوزف فوتل امام الكونغرس بقوله ان الجيش اللبناني من قلة جيوش في المنطقة يحافظ على سلاحه ويحرص على صيانته.
7 ــــ في المرات الثلاث لزيارته الولايات المتحدة منذ تعيينه قبل اكثر من سنتين، والاجتماعات التي عقدها في الكونغرس ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، ومع المسؤولين المعنيين، لم يسمع قائد الجيش من اي من محدثيه مرة اي ربط بين الجيش اللبناني وحزب الله، او ابداء اي مخاوف، او ايحاءات او قلق على السلاح الاميركي من استيلاء الحزب عليه، او تأثيره على الجيش حتى.
ما يقوله: لا يحجب الاميركيون عنا السلاح المتطور. بل ان لبنان غير قادر على شرائه، ولا على توفير صيانته. المشكلة تكمن هنا بالذات. مالية محض، وليست سياسية. صيانة بعض الاسلحة المتطورة تساوي ثمنها. يشمل ذلك اسلحة الجو والبر والبحر. اضف ان الحكومة اللبنانية خفضت السنة الماضية موازنة وزارة الدفاع 20%، ولا نعرف كم سيبلغ الخفض هذه السنة؟ 90% من المساعدات العسكرية الاميركية هبات. هناك ايضاً مساعدات المانية وبريطانية وفرنسية وايطالية.