كتبت ميسم رزق في “الاخبار”:
منذُ تكليفِه تأليف الحكومة، لم يُظهر الرئيس سعد الحريري أي استعداد للتنازل من حصّته. على رُغم أنه بدا مُتحمّساً للتفاوض والمرونة من أكياس الآخرين. على مدى خمسة أشهر، لم يوفّر الرئيس المكلّف والمُقربّون منه أي فرصة لحثّ الأطراف على ضرورة تقديم تنازلات في سبيل ولادة الحكومة. جميع الشركاء الحكوميين تنازلوا. منهم من وافق على المشاركة بحصّة أقل من حجمه النيابي (كحركة أمل وحزب الله) أو اضطر للتراجع عن مطالبه كما هي الحال مع حزبي القوات والاشتراكي. حتّى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر أعطيا من حصتهما نيابة رئاسة الحكومة. وبعد انقضاء الأشهر الخمسة، يتبيّن أن الحريري هو الوحيد الذي لم يتراجع عن الحصة التي أرادها لنفسه. لم تسِر الأمور على الجميع كما اشتهوها، باستثنائه هو (حتى اللحظة). خمسة وزراء بالإضافة إلى كرسي الرئاسة الثالثة. ومن ثمّ عدم الرضوخ إلى طلب تمثيل النواب السنة من خارج عباءته السياسية. قالها أخيراً «من يُرد تمثيلهم فليعطهِم من حصته، أما عدا ذلك فليبحثوا عن رئيس حكومة غيري».
مُنذ البداية، كان المسار التفاوضي في عملية تشكيل الحكومة (من جهة الرئيس المُكلّف) يهدف إلى تهميش هؤلاء. وكان أغلب الظنّ عنده بأن ثمّة من يُناور بشأنهم أو في أسوأ تقدير سيضطر مجبراً على مسايرة الحريري ما دام هو لم يقرب من مصالحه الوزارية (تحديداً في ما يتعلق بحزب الله وحركة أمل). فعلامَ استند رئيس الحكومة في تشدّده هذا؟ وكيف نجَح في تمرير الوقت من دون أن يسعى أحد جدّياً إلى محاصرته؟
في هذا الصدد يظهر رأيان مختلفان. واحدٌ يعتبر بأن «مجرّد ترؤسه» لحكومة تحكمها غالبية من الفريق الآخر هو «تنازل في حدّ ذاته». فالحريري «سيترأس مجلس وزراء الثلث المعطل فيه هو لرئيس الجمهورية ومعه تكتل لبنان القوي». يُضاف إليه حصة حزب الله وحركة أمل وتيار المردة «فأين يكون الانتصار»؟ من المؤّكد أن «خسارة الحريري تكمُن في ما سيتعرّض له بعد تأليف الحكومة من ضغوط داخلية وخارجية». وليسَ موضوعياً، وفق الرأي نفسه، «إغفال مفعول ما توعّدت به الولايات المتحدة في حال منح وزارة الصحة لحزب الله»، أو «تصوّر بأن الإدارة الأميركية أو الدول الخليجية يُمكن أن تتعاطى بكرم أخلاق مع حكومة بهذه التركيبة». فواشنطن وحلفاؤها الخليجيون يعلَمون بأن التركيبة الحكومية المقترحة هي أمر واقع (قياساً لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة)، فُرِض على الحريري وكاد يطيح بحزب القوات اللبنانية.
في المقابل، يرى أصحاب الرأي الآخر أن الحريري يتصرّف كمنتصر. أول انتصاراته يظهر في اختياره رئيساً للحكومة، على رغم أن فريقه السياسي لم يفُز في الانتخابات النيابية الأخيرة. تسميته كانت نتيجة للتفاهم أولاً مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ومن ثمّ مع «البلوك» النيابي المحسوب على فريق 8 آذار. ومع خسارته أكثر من ثلث نواب كتلته في الاستحقاق الأخير، ودخول عدد من النواب السنة كشريك مضارب له في بيئته، ظفر الرئيس المكلّف بالمقاعد السنية كلها في الحكومة، باستثناء مقعد وحيد بادله مع رئيس الجمهورية.
ووفق هؤلاء، ثمة عوامل قوة يراها الحريري في نفسه، تجعله لا يُقدّم تنازلات. وأبرز تلك العوامل:
أولاً، يعتقد الحريري أنه «حاجة لحزب الله». ففي ظل صدور قرار المحكمة الدولية، لم يكن الحزب ليطلب أكثر ممّا قاله رئيس الحكومة من على بابها: «الفصل بين قرارها والعلاقة مع الحزب كمكوّن أساسي على الساحة اللبنانية». الأمر نفسه ينسحب على موضوع العقوبات الأميركية المفروضة على شخصيات من الحزب أو بيئته.
ثانياً، ينظر الحريري إلى نفسه بصفته ورقة مرور إلى المجتمع الدولي «فكلّ الحكومات، فيما لو ترأسها أحد غير سعد رفيق الحريري، ستكون غير ذات قيمة بالنسبة إلى الخارج».
ثالثاً، على رُغم كل المطبات التي شهدتها علاقة الحريري برئيسي الجمهورية ومجلس النواب منذ الانتخابات النيابية حتى اليوم، يبقى رئيس تيار المستقبل هو «القطعة المكملة» لبازل التركيبة السياسية الحالية. لن يكون بمقدور «الرئيس ميشال عون التعاون مع أي رئيس حكومة آخر كما هي الحال مع الحريري، نتيجة التسوية التي أرساها قبل الانتخابات الرئاسية». كما أن الرئيس نبيه برّي «ليسَ في وارد السخاء به مقابل أي خيار آخر».
ويستشهِد أصحاب هذا الرأي أيضاً بأن رئيس الحكومة لم يتعرّض طيلة خمسة أشهر من التفاوض إلى أي ضغط جدّي وفعلي في ما يتعّلق بحصته الوزارية، خلافاً لما حصَل مع القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي. انطلاقاً من هنا، يشعر رئيس تيار المُستقبل بأنه محميّ من «مثلّث القوة الداخلي» (عون وبري وحزب الله).
نتيجة لما تقدّم، يلجأ الرئيس المكلّف تأليف الحكومة إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، محاولاً تثبيت نفسه الزعيم الوحيد في الطائفة السنية، والخيار الوحيد أيضاً لرئاسة الحكومة. وبدلاً من تعرّضه للضغط لإجباره على التنازل، لجأ إلى الهجوم الاستباقي، مستخدماً أسلحة عدة، أبرزها «مدفعية» رؤساء الحكومات السابقين، ليُطلق بهم النار على شركائه من باب «صلاحيات الرئاسة الثالثة كونها خطّاً أحمر لا يجوز المساس به»!