كتبت راكيل عتيِّق في “الجمهورية”:
على رغم تفكُّك 8 و 14 آذار تنظيمياً وتبدُّل التحالفات، إلّا أنّ الاصطفاف والرأي حول ثلاثية «المقاومة والجيش والشعب»، ما زالا ثابتين. فأيُّ تسويةٍ لفظيّة ستعتمد الحكومة الـ75 ما بعد استقلال «لبنان الكبير»، والحكومة 18 بعد «اتفاق الطائف»، والثالثة برئاسة سعد الحريري والثانية في عهد الرئيس ميشال عون الذي يعتبرها حكومة عهده الأولى؟
منذ 2005، وبعد «الاستقلال الثاني» سلك البيانُ الوزاري للحكومات مساراً مغايراً. ما يُفترض أن يكون خطة عمل الحكومة، ونادراً ما كان ما بعد «اتفاق الطائف»، تركّزت المناقشات لنصِّه وإقراره حول ثلاثية «المقاومة والجيش والشعب». فبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان سقطت عبارات وشعارات «العلاقات المُميّزة مع سوريا ووحدة المسار والمصير» من البيانات الوزارية، ونشأ الخلاف حول «الثلاثية» مع بروز اصطفاف قوى 8 و14 آذار. تسوية لفظية ترضي الطرفين ويُفسِّرها كل طرف بما يخدم فتواه، كانت تُمرِّر البيان بعد أخذ ورد من دون أن تحسم الخلاف.
بيانات حكومات ما بعد «الطائف»
«حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحر» إلى جانب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المُفترض أن يتمثّل في الحكومة بثلاثة أو أربعة وزراء، مع «الثلاثية» أو ما يُعادلها. وفي ضفة التشديد على حصر السلاح وقرار الحرب والسلم بيد الدولة وأجهزتها يقف تيار «المستقبل» وحزب «القوات اللبنانية».
حسب الدستور، على الحكومة، أن تتقدّم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تأليفها. ولا تمارس الحكومة صلاحيّاتها قبل نيلها الثقة. ويُعتبر البيان الوزاري بمثابة خطّة عمل الحكومة، تنال الثقة في المجلس النيابي على أساسها، ومن المُفترض أن تشمل هذه الخطة كلّ القطاعات ومجالات عمل كلّ الوزارات، فتنصّ على خطوط عامة لخطط إنقاذية أو علاجية أو تعزيزية وتحفيزية… في الصحة والتعليم والكهرباء والاقتصاد والمال… إلّا أنّ البيانات الوزارية بعد «إتفاق الطائف»، وخصوصاً بعد 2005 خلت من الخطط الجدّية التي استُعيض عنها بعبارات مُستنسَخة لتعبئة «الفراغ» بعيداً من أيّ رؤية جدّية للوضع أو نيّة لتطبيق ما كُتِب. واستحوذ الشقّ السياسي في البيان على نقاش اللجنة الوزارية المُكلّفة صوغ البيان، والمُؤلّفة من مكوّنات الحكومة.
على صعيد «المقاومة» لم يشذّ بيانُ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي «التكنوقراط» بعد استشهاد الحريري، عن بيانات الحكومات التي سبقتها، فمع اختلاف العبارات بقي المضمون نفسه. ما قبل 2000 لم يعارض أحد تشريع مقاومة «حزب الله»، لكن بعد تحرير الجنوب وانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية، بدأت تصدح أصواتٌ معارضة، إتّضحت بدءاً من 2005 ومع الحكومة الأولى التي شارك فيها «الحزب».
لكنّ «الثلاثية» لم تسقط، بل بدأ استبدالُها بعبارات أخرى، فحتى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي أتت بعد انتخابات 2005 و»التحالف الرباعي»، كانت «تسووية» وأكّدت في بيانها الوزاري أنّ «المقاومة اللبنانية هي تعبير صادق وطبيعي عن الحقّ الوطني للشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع عن كرامته في مواجهة الاعتداءات والتهديدات والأطماع الإسرائيلية».
التبدُّل على صعيد «تشريع المقاومة» بدأ مع حكومة السنيورة في عهد الرئيس ميشال سليمان، فعلى رغم أنّ بيانها شمل تأكيد «حقّ لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته (…) في مواجهة أيّ اعتداء»، نصّ على «العمل على وضع إستراتيجية وطنية شاملة لحماية لبنان والدفاع عنه».
أمّا حكومة الحريري الإبن الأولى بعد انتخابات 2009، فأكدت «تصميمها على منع كل أشكال العبث بالسلم الأهلي والأمن، من دون مساومة. ويقتضي ذلك حصر السلطة الأمنية والعسكرية بيد الدولة». لكنها حافظت على «الثلاثية»، فأكّدت «حقّ لبنان، بشعبه وجيشه ومقاومته (…) في الدفاع عن لبنان في مواجهة أيّ اعتداء».
حكومة ميقاتي التي أتت بعد الانقلاب على الحريري عام 2011 ومع بدء الأزمة السورية أكّدت بدورها «التمسّك بحقّ لبنان، شعباً وجيشاً ومقاومة، (…) في الدفاع عن لبنان ضد أيّ اعتداء».
أما بيان الحكومة التالية برئاسة تمام سلام فخلا من «الثلاثية» أو التفّ عليها فنصّ على «واجب الدولة وسعيها لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر، وذلك بشتى الوسائل المشروعة. مع التأكيد على الحقّ للمواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الإسرائيلي وردّ اعتداءاته». واستنسخت حكومة الحريري في عهد عون حرفياً هذه الفقرة من البيان الوزاري للحكومة السلامية.
تسوية لفظيّة و«سيدر»
بعد إصدار عون مرسوم تكليف الحريري ومن ثمّ مرسوم تأليف الحكومة ممهوراً بإمضائه والحريري، تؤلّف لجنة من الوزراء لصوغ البيان الوزاري، من ثمّ تعرضه على الحكومة ويوافق عليه مجلس الوزراء، ويتلوه رئيس الحكومة امام المجلس النيابي (ومن المُفترض أن يكون عرضاً لخطة عمل الحكومة) وينال الثقة على أساس خطة العمل هذه، وإن لم ينفّذها تُسحب الثقة منه ومن حكومته فيسقطا.
والبيان الوزاري هو خطة عمل الحكومة، أي البرنامج الذي يُفترض أن يكون نقطة التلاقي بين مختلف الأفرقاء الآتين من شتى المواقع، وعليهم أن يتفقوا على خطة مشتركة في العمل وعلى استهداف مشروع مُشترك. هذا على صعيد ما يُعتبر في لبنان «نظرياً».
أمّا واقعياً، فيشرح وزير شارك في حكومات ما قبل «إتفاق الطائف» وما بعده، أنّ «الحكومات المتعاقبة ما بعد «الطائف» هي حكومات تسويات ومحاصصات، لأنّ العهود التي تعاقبت هي الأكثر وصولية ونشأت نتيجة إيحاءات وليس بإرادة وأهلية». ويرى أنّ «هناك نقضاً متمادياً لـ»اتفاق الطائف» الذي ينصّ على الوفاق الوطني وبسط سيادة الدولة وحلّ الميليشيات والتنظيمات المُسلّحة اللبنانية وغير اللبنانية.. وهذا مردّه إلى قلّة الكفاية أو عدم الأهليّة وسوء النية. فالمسؤولون الذين يتناتشون الحقائب الوزارية لا تهمّهم مصلحةُ البلد».
ويوضح أنّ «صوغ البيان الوزاري شيء ومشروع البيان شيء آخر، فالمشروع هو اتّفاق على خطط وعمل لا وعود، وإلّا يُمكنهم أخذ أيّ بيان وزاري واستنساخه. أمّا البيان الوزاري اليوم فلا يعدو كونه «صفّ حكي».
«القوات» التي لم يتبدّل رأيُها في العلاقة مع سوريا أو في موقفها إزاء «المقاومة» لا قبل «إتفاق الطائف» ولا بعده، ولا قبل 2005 ولا بعده، متمسّكةٌ بموقفها لكنها ملتزمةٌ عدم الدخول في إشكاليات البيان الوزاري قبل تأليف لجنة لصوغه، خصوصاً بعد الإشكالات التي أخّرت التأليف. وتشدّد أوساطها على «ضرورة الذهاب إلى بيان وزاري سريع يأخذ في الاعتبار الجانبَ الدولتي ومؤتمر «سيدر» والتحدّيات الاقتصادية الراهنة وسبل معالجتها وعدم الدخول في مسائل ونقاط خلافية، وتأكيد مرجعية الدولة».
أمّا «حزب الله» فهناك ثوابت لديه لن يتخلّى عنها في البيان الوزاري، وذلك بتنسيق كامل مع عون حسبما تؤكّد مصادره لـ«الجمهورية». وحتى حول الاستراتيجية الدفاعية «لا مشكلة لدى الحزب بالدخول في حوار، سواءٌ من خلال الحكومة أو عبر طاولة حوار، أو وفق ما يرتأي عون، إنما بمعزل عن البيان الوزاري حيث الثلاثية أو ما يُعادلها ثابتة».
الحريري، أكّد من الرياض، أخيراً، أنّ الحكومة المُقبلة سـ«تنفّذ ما اتفقنا عليه في «سيدر»، وكل ذلك سيندرج في بيانها الوزاري». وأشار إلى أنّ «الأساس لدخول أيِّ فريق إلى الحكومة موافقته على الإصلاحات التي أقرّها مؤتمر سيدر».
أمّا أبرز مُحرِّكي اللعبة السياسية اللبنانية، رئيس مجلس النواب نبيه بري، فأكّد الأسبوع الماضي أنه «لن تكون هناك مشكلة حول البيان الوزاري بعد تأليف الحكومة، لأنه يستند في خطوطه الأساسية الى بيان الحكومة الحالية».
إذن، من المُفترض أن يستنسخ بيانُ حكومة الحريري الثانية في عهد عون بيان حكومته الأولى في هذا العهد، إضافةً إلى إصلاحات «سيدر». وبالتالي، فإنّ «التسوية اللفظية» حول «الثلاثية» ستكون الممرَّ الإلزامي لـ»حكومة الوحدة الوطنية» وبيانها الوزاري.
أمّا ما يأمله اللبنانيون فهو أن لا تكون خطط الحكومة العتيدة حبراً على ورق وواجباً شكلياً، فبالنسبة إلى المواطن تأتي الاستراتيجية الاقتصادية في سُلَّم الأولويات في وقتٍ تعاني كل القطاعات الجمود وبعضها الإفلاس. لا بل إنّ الوضع يتطلّب خطط عمل أشمل من تلك التي سيشملها البيان الوزاري، والواقع القائم يحتاج إلى مجامع وزارية كتلك التي كانت تُعقد ما قبل اندلاع الحرب الأهلية، فتجتمع لجانٌ وزارية ليومين أو ثلاثة بعد درسٍ واطّلاعٍ مُعمّقين في الحاجات، وتضع خططاً متوسطة وطويلة الأمد لـ5 سنوات أو عشر أو أكثر، وكان منها «مجمع بيت الدين» في عهد الرئيس سليمان فرنجية.
فهل ستنجح «حكومة العهد الأولى» في إنقاذ الاقتصاد والعهد، بعد مرور سنتين من عمرِه؟