كتب علي الأمين في صحيفة “العرب” اللندنية:
وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قانون العقوبات المعدل والجديد على “حزب الله” في الذكرى السنوية لانفجار مقر المارينز في بيروت، والذي ذهب ضحيته أكثر من 200 جندي أميركي عام 1983، وتتهم واشنطن حزب الله بالوقوف وراء هذا التفجير الذي ينفي الوقوف وراءه أو لا يتبنى مسؤولية تنفيذه.
القانون الذي أقره الكونغرس قبل أسابيع يضع حزب الله في مصاف المنظمات الإجرامية، ويجرم من يتعامل معه على صعيد الأفراد أو المؤسسات الخاصة على اختلافها، بل يتيح للرئيس الأميركي تنفيذ عقوبات على مؤسسات رسمية وحكومات ودول تتعامل مع الحزب دون العودة إلى الكونغرس.
أُقرَّ القانون بعد سلسلة قرارات وقوانين صدرت خلال السنة الحالية والسنوات الماضية ضد حزب الله، وفي سياق محاصرة مصادر تمويله وقبل بدء تنفيذ الحزمة الثانية من العقوبات على إيران مطلع الشهر المقبل، كما أن هذا القانون أقر في ظل محاولات حثيثة من حزب الله للإطباق على الحكومة المزمع تشكيلها بعد انتخابات نيابية أعلن إثرها قائد فيلق القدس قاسم سليماني أن حزب الله وحلفاءه حصدوا أكثرية المقاعد في البرلمان اللبناني الجديد، ورغم الصعوبات التي اعترضت تشكيل الحكومة، غير أن عملية التشكيل تبدو أنها وصلت إلى نهاياتها ويرجح أن تعلن هذا الأسبوع، بعدما استقرت التشكيلة الوزارية على معادلة تتيح لحزب الله ضمان الإمساك بالحكومة لجهة الحصة الوازنة التي يسيطر عليها من عديد الوزراء، والتي يستطيع من خلالها منع صدور أي قرار من هذه الحكومة خارج إرادته أو رغما عنه.
وفي هذا السياق يمكن القول من الناحية السياسية والدستورية إن حزب الله بات مسيطرا على السلطتين؛ التشريعية عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري المنضبط لقواعد التحالف مع حزب الله، والسلطة التنفيذية من خلال حليفه رئيس الجمهورية والأكثرية التي يسيطر عليها في الحكومة.
تمثل هذه الخطوات التي أنجزها حزب الله باستثمار سطوته العسكرية والأمنية، لتحقيق أرجحية داخل المؤسسات الدستورية تستكمل سيطرته على الجغرافيا اللبنانية، التحدي الذي يجعل لبنان برمته أمام سلة عقوبات أميركية كبيرة إلى حدّ يصعب تصور تنفيذها، إلا إذا كان القرار الأميركي قد وصل إلى مرحلة بات غير آسف على تدمير الهيكل على الجميع في لبنان.
يمكن الإشارة إلى طبيعة العقوبات التي يتضمنها القانون الأميركي الجديد، بكونها عقوبات تجعل الحكومة اللبنانية في موقع المستهدف، لا بل معظم المؤسسات اللبنانية التي بات حزب الله إما في داخلها من خلال وزراء وموظفين، وإما متعاملا معها من خلال المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية، فضلا عن المجالس البلدية التي يديرها الحزب وهي بالعشرات، وتلك بالضرورة لها أوجه تعامل مع المؤسسات الرسمية اللبنانية، وهو ما يجعلها عرضة للعقوبات، مما يجعل السؤال ماذا لو نفذت واشنطن عقوباتها فعليا، فهل يدرك اللبنانيون نتائج هذه العقوبات وتداعياتها على أحوالهم البائسة أصلا؟
النائب في حركة أمل محمد خواجة قال إن لبنان يستطيع تجاوز مخاطر هذا القانون كما تجاوزه في المرات السابقة، في المقابل ربما تدرك الأجهزة الأميركية أن القانون هو وسيلة ضغط على حزب الله بالدرجة الأولى وعلى لبنان بالدرجة الثانية، لا سيما بعدما وسع القانون الجديد من دائرة المستهدفين، أي حلفاء حزب الله والمتعاونين معه بمختلف الدرجات، بما يوحي أن ثمة سلطة تنسيبية يمكن استخدامها بما تقتضي الحاجة الأميركية بالدرجة الأولى، وبما يلبي عودة لبنان إلى كنف الدولة إذا كان ثمة وجود لأطراف لبنانية جادة في استعادة هيبة الدولة وسيادتها على كامل مؤسساتها، أي الخروج من ثنائية الدولة – الدويلة، التي سمحت لحزب الله حكم لبنان والتحكم به.
العقوبات الأميركية المتدرجة على حزب الله فرضت عليه ضغوطا مالية وألزمته بإعادة حساباته على قاعدة التحصن بالدولة، فلا شك أن الحزب يتعرض لضغوط مالية سواء من القرارات الأميركية التي طالته، أو بسبب العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران، لذا لجأ إلى التمترس بالمؤسسات اللبنانية، ليس إلى الحد الذي يعكس خيار العودة إلى مشروع الدولة، بل من أجل الاستفادة من حال الانفلات المالي والإداري في المؤسسات اللبنانية لتغطية الكلفة المالية والحزبية، فهو مثلا جند البلديات التي تمول من الضرائب على المواطنين، لاستيعاب الآلاف من محازبيه في ما يسمى “شرطة البلديات”، وعمد عبر وزارة الصحة ومؤسسات الضمان الاجتماعي إلى توفير ملايين الدولارات لتشغيل مراكزه الصحية التي تُعنى بتطبيب محازبيه ومقاتليه بالدرجة الأولى، بعدما كانت هذه المراكز تستفيد من تمويل إيراني ومن دول أخرى معروفة.
وإلى هذه الوسائل من التمترس بمؤسسات الدولة، عمد حزب الله عبر عدد من النافذين إلى استثمار المرافئ اللبنانية لإدخال بضائع بطرق غير شرعية يستفيد منها عدد من التجار الذين يرصدون جزءا من أرباحهم لتمويل الحزب، فيما شكلت خطوط التهريب من سوريا مجالا واسعا لتهريب البضائع على اختلاف أنواعها المشروعة وغير المشروعة، فالحدود مع سوريا هي مناطق يسيطر عليها حزب الله وهو من يقرر في شأنها لا سيما على مستوى دخول البضائع وخروجها.
تتعدد المجالات التي يمكن التفصيل بها والتي تشير إلى وسائل استثمار حزب الله في ضعف الدولة في سبيل تأمين موارد مالية إضافية تسد العجز الذي نتج عن العقوبات الأميركية، لكن ما يجب التنويه به هو أن الحزب في سلوكه لمواجهة العقوبات الأميركية يعمد إلى مزيد ربط مصير الدولة اللبنانية الاقتصادي والمالي والأمني ببقائه، ويقول بطريقة غير مباشرة إنه يمسك بمفاصل الدولة وإن المبالغة في استهدافه ستسقط الدولة اللبنانية.
إزاء هذه المعادلة أصر حزب الله على رفض النصائح التي قدمت له من بعض المسؤولين اللبنانيين، بعدم توزير حزبي في الحكومة الجديدة، رفض النصيحة وأصر على توزير حزبيين ضاربا عرض الحائط بكل المخاطر التي يمكن أن يسببها توزير مسؤولين في الحزب لا سيما بعد قانون العقوبات الأميركي الجديد.
خطر العقوبات جاثم فوق لبنان، وحزب الله يدرك أنه نجح في جعل العقوبات على الجميع وليس عليه وحده، وواشنطن التي لا تتصرف في سياساتها انطلاقا من مواقف أيديولوجية أو انتقامية بل على أساس براغماتي صرف، وحزب الله، كما إيران نفسها، يعتبر أن النفوذ هو الأهم، أما الأيديولوجيا فهي وسيلة استقطاب للمحازبين والجمهور، وأي تفاهم يوفر هذا النفوذ لا يضير سواء كان ضمنيا مع إسرائيل، أو علنيا بين واشنطن وطهران. وفي لبنان يمكن لحزب الله أن يبقى مسيطرا ومتحكما، طالما أن اللبنانيين لا يعبرون عن رفضهم له، وطالما أن الحزب لا يخل بقواعد السياسة الأميركية والدولية والإسرائيلية، وهذا ما أثبته خلال حربه ضد الإرهابيين.
في زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عمان وردود الفعل الإيرانية الباردة أو المرحبة ضمنا، ما يكشف أن إيران مستعدة لمحاكاة المصالح الإسرائيلية بما يخفف عنها آثار العقوبات الأميركية وما يضمن حماية نفوذها في الدول العربية ولبنان. زيارة نتنياهو إلى مسقط عشية العقوبات الأميركية على طهران هي رسالة إيرانية للعرب وهذه هي مخاطرها.