كتبت راجانا حمية في صحيفة “الأخبار”:
بعد خمس سنوات على حادثة قتل رولا يعقوب، جاء الحكم النهائي من محكمة الجنايات في لبنان الشمالي، ببراءة المتهم بقتلها ــــ زوجها ــــ كرم البازي. بعد خمس سنوات، صدّق قاضيان على أن يعقوب، التي سبحت بدمها أمام بناتها الخمس، توفيت. فيما خالف رئيس المحكمة «رأي الأكثرية»، معتبراً أن «الوقائع الثابتة المؤيدة بالأدلة» توجب تجريم المتهم.
ماتت رولا يعقوب ومات حقها معها. دمها الذي سبحت فيه أمام بناتها الخمس، قبل خمس سنوات، سيبقى حقاً مهدوراً، وسيبقى معه قلب أمها «محروقاً»، بعدما خاب ظنها بقلوب القضاة المسؤولين عن إصدار الحكم النهائي. حتى اللحظات الأخيرة، بقيت ليلى يعقوب تعوّل على تلك القلوب لـ«تَجبر» آخرتها، إلى أن جاء الحكم النهائي، أول من أمس، ليعيدها إلى اللحظة التي علمت فيها بانتهاء ابنتها قتلاً. «كأنها ماتت للتو»، تقول الأم، بعدما صدّق قاضيان على براءة كرم البازي، زوج رولا، المتهم بحرمانها من ابنتها الوحيدة.
«لم يبق لي سوى الله لينصفني في حق ابنتي». تقف الأم عاجزة عن التصديق أن قاضيين (المستشارين في محكمة الجنايات في لبنان الشمالي خالد عكاري وزياد دواليبي)، صدّقا على حكم المحكمة القاضي بـ«إعلان براءة المتهم كرم البازي من جناية المادة 550 عقوبات لعدم كفاية الدليل»، و«إطلاق سراحه فوراً ما لم يكن موقوفاً بداعٍ آخر»، و«ردّ دعوى الحق الشخصي وسائر مطالب الجهة المدعية تبعاً لإعلان البراءة وتضمينها الرسوم والمصاريف».
فيما خالف رئيس المحكمة، داني الشبلي، «رأي الأكثرية في المحكمة»، معتبراً أن «المتهم أقدم على التسبب بوفاة زوجته الضحية رولا فايز يعقوب. وفعله والنتيجة الجرمية التي أسفر عنها يعتبر من نوع الجناية المنصوص والمعاقب عليها بمقتضى المادة 550 من قانون العقوبات، وذلك في ضوء المعطيات التي وفرتها التحقيقات الأولية والابتدائية والنهائية والوقائع الثابتة والمؤيدة بالأدلة». وعليه، «كان يقتضي تجريم المتهم بموجب تلك المادة القانونية… وهذه قناعة الرئاسة».
مع ذلك، بقيت تلك القناعة حبراً على ورق، فالحكم المنطوق به، أول من أمس، هو حكم الأكثرية. فاز كرم البازي ببراءته بأكثرية صوتين في المحكمة، وسقط حق رولا بحكم يحمل اسم الشعب اللبناني. هذا ما يقوله المحامون المتابعون للملف. البازي الذي رسمته ابنته الصغيرة (5 سنوات في حينها)، وهو يحمل عصاه وأمها تسبح في دمها، بريء بصكّ قضائي مبرم، وهو الآن حرّ طليق. مع ذلك، لن يغيّر الحكم شيئاً في حياته، فمنذ حادثة القتل، «وهو حرّ طليق»، تقول والدة القتيلة. وسيبقى كذلك، إذ لا شيء يمكن فعله اليوم. وحدها النيابة العامة تستطيع تمييز الحكم، «إذا ما أرادت» خلال شهرين من تاريخ صدوره، بحسب محامي عائلة الضحية، ريمون يعقوب. هذه المرة، لن تنتظر الأم ما ستفعله النيابة العامة، بعدما يئست من القضاء الذي أصدر قراره الأخير مطمئناً «إلى صحة الأقوال الواردة على لسان الطفلتين غلاديس وغلوريا، ولا سيما أن هذه الأقوال تنسجم مع مضمون تقارير الأطباء الشرعيين ونتائج الفحوصات التي أجريت على الجثة بعد استخراجها من القبر»، علماً بأنه، واستناداً إلى الوقائع، وبحسب الشاهدة فيفي لوسيا الخوري، التي شهدت 3 مرات، «قالت لي غلاديس إن بابا هو الذي ضرب ماما بالعصا». كانت هذه شهادتها فوق جثة أمها، قبل أن تغيّرها في جلسة التحقيق الأولي عندما ذهبت إليها برفقة عمتها، بحسب ما ورد في محاضر التحقيق.
يأسف المحامي يعقوب لاستناد محكمة الجنايات إلى أقوال طفلتين لإصدار حكم في قضية تضخّم ملفها بالوقائع على مدى خمس سنوات. فبرأيه «لا يمكن لأقوال الفتاتين أن تثبت براءة الأب من عدمها، أضف إلى ذلك أنها شهادات تخالف ما قالتاه للشاهدة يوم مقتل والدتهما». يلفت المحامي الى الوقائع التي استندت إليها المحكمة لإصدار الحكم، فيشير إلى «انتقائية حيث جرى تضمين الوقائع التي لا تدين المتهم أو التي لا تقول شيئاً في مقابل تغييب أدلة أخرى»، كتلك التي أوردها القاضي شبلي في المخالفة التي سجلها. إذ تحدّث الأخير عن شهادات بنات الضحية «اللواتي أكدن أن والدهن أقدم عدة مرات على ضرب والدتهن، وأنه عندما يكون بحالة عصبية يقوم بتكسير الأشياء في المنزل». هذه الإشارة سقطت من بند الوقائع الذي على أساسه صدر حكم البراءة. ثمة دليل آخر سجّله شبلي وهو كلام الشاهدة الخوري «أنه مساء يوم الحادثة، اختلت بالابنة غلاديس التي أخبرتها بأن المتهم أقدم على ضربها وضرب والدتها وهددها بالقتل في حال أخبرت أحداً بما حصل». وهذه مخالفة ثانية.
خالف رئيس المحكمة رأي «الأكثرية»: الوقائع والأدلة توجب تجريم المتهم خالف رئيس المحكمة رأي «الأكثرية»: الوقائع والأدلة توجب تجريم المتهم
أما الثالثة فهي شهادة وليد الحسن «الذي سمع قبل حادث الوفاة بنصف ساعة صراخاً من منزل الضحية، وأن الأمر كان أشبه بما سماه تحقيقاً، واصفاً الأمر بأن شخصاً كان يستجوب شخصاً آخر ثم يتبع الاستجواب بالضرب، الأمر الذي دفعه إلى التوجه إلى منزل الضحية، فرد عليه المتهم بأنه: ما في شي… ما في شي (…)». وختم شبلي باستنتاج «استناداً إلى ما ثبت في الملف، سواء في أقوال المتهم أو الشهود، أن الضحية كانت تعيش حالة تعنيف معنوي وجسدي متكرر، ما يفيد بأن المتهم قصد إيذاءها، وهذا الأمر، وإن كان لا يؤدي إلى الموت، بحسب مجرى الأمور العادي، إلا أنه أدى إلى تفاقم الحالة التي كانت تعانيها، وساهم في وقوع حادث الوفاة، وبالتالي التسبب بها».
برغم سطوة الأكثرية، إلا أن اللافت في الحكم الختامي لقضية امتد عمرها لخمس سنوات، وجود رأيين مختلفين، ولكل رأي أدلة تنصفه. واحد يبعد شبهة القتل عن المتهم، وآخر يدينه. رأيان متباعدان لا يجمعهما دليل. وهذا كافٍ لكي «يكون دافعاً للنيابة العامة كي تميّز»، يقول المحامي يعقوب. مع ذلك، يبقى هذا التحليل أقرب إلى الأمل منه إلى الواقع. أما اليوم، فما أصدره القضاء ليس الحكم بالبراءة فقط على كرم البازي، وإنما حكم أيضاً بأن رولا يعقوب ماتت ولم تقتل. وهذا حكم «قاتل»، بالنسبة إلى والدة رولا التي رأت ابنتها مقتولة، وتشهد اليوم ختام قضيتها أمام القضاء بتسمية ما حدث: «حادثة وفاة». هكذا، انتهت رولا يعقوب، بحكم قضائي، متوفاة.