كتب صطفى زين في صحيفة “الحياة”:
تتردد عبارة «صفقة القرن» في الإعلام، وفي تصريحات مسؤولين أميركيين وعرب كثيرين، لكن أحداً لم يحدد بنودها، حتى الذين اطلعوا عليها ورفضوها مثل محمود عباس، أو مثل جاريد كوشنير الذي يقال إنه ابتدعها أو جيسون غرينبلات المكلف التفاوض فيها والإشراف على تنفيذها.
لكن عدم نشر تفاصيل «الصفقة» لا يعني أن الإدارة الأميركية أو إسرائيل تنتظر إعلانها رسمياً فقد بدأتا التنفيذ منذ مدة ليست بقليلة. ويمكننا القول، بكل ثقة، إن قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعترافه بها «عاصمة أبدية لإسرائيل تاريخياً» (حسب تفسيره التوراة) وحالياً، على أساس «الواقع»، هو بند مُهم من هذهِ «الصفقة» فقد أخرج المدينة من «مفاوضات الحل النهائي»، وبدأ الضغط على الدول العربية وغير العربية لاتباع خطواته، مهدداً الجميع بـ «قصاص لم يعرفوه سابقاً»، وبإطاحة الرافضين «خلال أسبوعين». وتلى نقل السفارة قرار آخر بوقف دعم وكالة غوث اللاجئين (أونروا)، أي عدم الاعتراف باللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم، في مخالفة واضحة لقرارات الأمم المتحدة.
مستغلة الضعف العربي، لم تكتف الإدارة الأميركية بهذين القرارين، بل أقفلت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، في محاولة أخرى لمزيد من الضغط على عباس عله يقتنع بـ «الواقع» ويستمر في التعاون الأمني مع إسرائيل، مقابل وعود بتحسين وضع الفلسطينين مادياً بأموال عربية. أي أن ترامب يمارس مهنته كتاجر حتى في القضايا الوطنية والمصيرية، معتقداً بأن المال يحل كل العقد والخلافات ويقنع الناس بالقبول بالاحتلال والتحول إلى عبيد.
هذا عن ترامب وإدارته. أما نتانياهو فلم يترك مناسبة تفوته من دون تأكي علاقاته الوثيقة مع عدد من الدول العربية (غير مصر والأردن)، وتوج تصريحاته بزيارة لعُمان، حيث التقى السلطان قابوس. ولم تكن الزيارة الأولى لرئيس وزراء إسرائيلي، فقد سبقه إلى ذلك إسحق رابين (عام 1994) وكان يسعى إلى التفاوض مع الفلسطينيين والعرب، كما زارها شمعون بريرز عام 1996 لترويج دعوته إلى شرق أوسط جديد على أساس التعاون الاقتصادي والأمني، وانتشر شعاره «العقل الإسرائيلي والأموال العربية» يصنعان المعجزات. والمفارقة أن زيارة بيريس حينها ترافقت مع قصف جيشه جنوب لبنان وارتكابه مجزرة قانا، فيما تزامنت زيارة نتانياهو مع التصعيد ضد غزة وارتكابه مجازر يومية في القطاع، كما تزامنت مع الإحتفاء بوفود رياضية وثقافية في أبو ظبي وقطر.
هذا المسار المتسارع لإقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل ودول عربية ليس وليد اللحظة الراهنة، بل هو تتويج لأحداث وتطورات خطيرة شهدها العالم العربي منذ الإحتلال الأميركي للعراق وتدمير سورية وإغراق المنطقة بالفوضى السياسية والعسكرية واشعال الحروب الأهلية والأيديولوجيات الطائفية المدمرة فيها. كما أنه تتويج لسعي إسرائيل إلى التخلص من أي التزام ، حتى من اتفاقات أوسلو المجحفة بحق الفلسطينيين، ووأد المبادرة العربية للسلام التي تنص على «إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين والإنسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل الإعتراف وتطبيع العلاقات». أي أن التطبيع القائم حالياً ليس سوى محاولة جديدة لمحاصرة الفلسطينيين كي يسيروا بـ «صفقة القرن» فتتفرغ إسرائيل لصراعات وحروب أخرى تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط.