يُخطئ من يراهن على إمكان تشكيل حكومة جديدة في لبنان قريباً، تماماً كما يخطئ من يظن للحظة أن العقدة أمام تشكيل الحكومة هي تمثيل سُنّة “حزب الله”، تماماً كمن أخطأ من اعتقد أن حصّة “القوات اللبنانية” في الحكومة كانت عقبة أمام ولادة الحكومة.
لا حكومة قريباً في لبنان لحسابات محض إيرانية ينفّذ أجندتها “حزب الله” بإتقان وولاء كاملين للجمهورية الإسلامية ولإرشادات المرشد الأعلى في إيران. فاعتباراً من الاثنين 5 تشرين الثاني دخلت العقوبات الأميركية المشددة على إيران حيّز التنفيذ، وهذه العقوبات المشددة ليست كسابقاتها أيام إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما، بل هي تأتي مع إدارة متشددة يقودها الرئيس دونالد ترامب وفريق “حربي” يضمّ صقوراً لم تجتمع يوماً بهذا الحجم في إدارة أميركية معادية لطهران، من نائب الرئيس مايك بنس، مرورا بوزير الخارجية مايك بومبييو وليس انتهاء بمستشار الأمن القومي جون بولتون إضافة الى كل المواقع في الإدارة والـCIA وغيرها.
كما أن هذه العقوبات تأتي بالتزامن مع تطورات عربية- إسرائيلية لافتة، ظهرت مؤشرات منها في زيارة بنيامين نتنياهو الى سلطنة عُمان، وفي زيارة وزيرين إسرائيليين الى أبو ظبي، وفي مشاركة وفود رياضية إسرائيلية في نشاطات رياضية في الإمارات العربية المتحدة وقطر وغيرها من المؤشرات التي تراكمت في الأسابيع الأخيرة، من دون أن ننسى سعي إيران للتقرّب من إسرائيل سواء عبر مفاوضات مباشرة في سلطنة عُمان أو في حضور مندوبين إيرانيين مؤتمراً اقتصادياً في الدوحة يشارك فيه إسرائيليون!
كل تلك الصورة توحي بأن المواجهة الأميركية- العربية مع إيران ستكون بلا هوادة، وستعتمد على عقوبات اقتصادية لن ترحم حتى تحقيق كل الأهداف المرسومة. في المقابل بات واضحاً أن إيران اتخذت قرار المواجهة مع الإدارة الأميركية، ومع أوروبا المتخاذلة والعاجزة عن تأمين البدائل الاقتصادية والمالية لإيران.
هكذا يصبح لبنان الورقة الأخيرة بيد طهران في مواجهتها مع واشنطن، والتي تسعى من خلالها للضغط على العواصم الأوروبية في محاولة للجم الهجمة الأميركية الشرسة عليها. فإيران غير القادرة على المواجهة في سوريا حيث القرار السياسي والعملاني في يد موسكو، وغير القادرة على المواجهة في العراق حيث التوازنات هشّة ودقيقة بعد تسوية الحد الأدنى، وأي لعب فيها سيكون مكلفاً جداً، والقلقة من حجم الهجوم الخليجي في اليمن على الحديدة بمينائها الاستراتيجي، لم يبقَ أمامها غير الساحة اللبنانية فأعطت التعليمات لـ”حزب الله” بعرقلة تشكيل الحكومة حتى إشعار آخر وذلك في رسالتين واضحتين:
ـ الرسالة الأولى للولايات المتحدة ومفادها: إذا أردتم انهياراً اقتصادياً في إيران فسيقابله انهيار اقتصادي في لبنان الذي يأوي أكثر من مليون ونصف المليون نازح، مع ما يرتّب ذلك من مخاطر جمّة على واشنطن وحلفائها. وبهذا المعنى تعلن طهران أن بيروت باتت أسيرة لديها بشكل علني، اعتباراً من مجاهرة اللواء قاسم سليماني بأن الأكثرية النيابية في لبنان باتت في يد الحرس الثوري الإيراني، وصولاً إلى الإمساك بقرار تشكيل الحكومة واكثريتها وتوازناتها، والمعلّق تشكيلها حتى إشعار آخر.
ـ الرسالة الثانية إلى الدول الأوروبية، وفي طليعتها فرنسا التي يُظهر رئيسها إيمانويل ماكرون حماسةً لاستيلاد الحكومة اللبنانية في أسرع وقت بعدما أشرف على انعقاد مؤتمر “سيدر” في العاصمة الفرنسية وسعى لتأمين أكثر من 11 مليار دولار لمحاولة إنقاذ الاقتصاد اللبناني وصديقه الرئيس سعد الحريري، كما ضغط على رئيس الجمهورية ميشال عون في القمة الفرنكوفونية في يريفان لتأمين تشكيل سريع للحكومة وحلحلة العقد، وملخص الرسالة إلى باريس أنكم إذا أردتم تشكيل حكومة في لبنان فعليكم مفاوضة طهران وليس المسؤولين اللبنانيين، وعليكم تأمين مصالح طهران في مواجهة العقوبات الأميركية ليتم السماح بولادة الحكومة في لبنان!
في الخلاصة، ليست العقدة لا في ادعاء الحرص على تمثيل سُنّة “حزب الله”، ولا في أي عقدة داخلية، بل العقدة الوحيدة تكمن في إصرار “حزب الله” على أن يثبت يوماً بعد يوم أنه جزء من منظومة الحرس الثوري الإيراني في لبنان وأنه ينفذ الأجندة الإيرانية بالكامل بعيداً عن أي مصلحة للبنان. وبهذا المعنى على المسؤولين اللبنانيين على اختلافهم أن يسارعوا إلى تفعيل منطق تصريف الأعمال حكومياً ونيابياً وبأوسع نطاق ممكن، لأن مرحلة انتظار ولادة الحكومة الجديدة قد تطول كثيراً في انتظار نتائج المواجهة الإيرانية- الأميركية، عسى ألا ندفع ثمناً باهظاً لها في ظل إصرار إيران و”حزب الله” على تحويل لبنان إلى خط الدفاع الأول عن المصالح الفارسية!