كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
في تشرين الثاني 2017، تدَخَّل الرئيس إيمانويل ماكرون لإنهاء أزمة صديقه الرئيس سعد الحريري. واليوم، في تشرين الثاني 2018، يبدو الصديق الفرنسي مُطالَباً بالتدخّل لإنهاء أزمةٍ أكثر خطَراً وتعقيداً: إقناع إسرائيل بكبح تهديداتها للبنان، وإقناع إيران بتسهيل التسوية الحكومية. فهل يمتلك الفرنسيون ثمناً يدفعونه لإسرائيل، وهل يملكون ثمن المقايضة مع إيران إذا استجابت لطلبهم تسهيل التسوية؟ وفي عبارة أوضح، هل يستطيعون مكافأتها بتخفيف حِدّة العقوبات الأميركية؟
ثمّة اقتناع بدأ يترسّخ في الأيام الأخيرة: «حزب الله» لا يريد حكومة في هذه اللحظة. وهو يفضّل تأخيرها على الأقل لإمرار 3 استحقاقات آتية خلال الأسبوع الجاري، وأوّلُها جولة العقوبات على إيران.
فهل يتقصّد «الحزب» تمرير الاندفاعة الحماسية للعقوبات، في غياب حكومة لبنانية فاعلة، ما يسمح للبنان بالتنصّل من بعض المستلزمات المطلوبة من الحكومة اللبنانية أميركياً؟ أم إنّ إيران تحتاج إلى استخدام ورقة تأليف الحكومة للمقايضة في ذروة اشتباكها مع الأميركيين، كما الأوراق الأخرى في العراق وسوريا واليمن وغزة؟
أم إنّ الأمر لا يتعدّى رغبة إيران و»الحزب» في رفع سقف المفاوضة لضمان أكبر سيطرةٍ على القرار في الحكومة المقبلة، وعلى مدى 4 سنوات باقية من العهد؟
أيّاً يكن الأمر، فهناك انتظار إضافي لولادة الحكومة. وبعد انطلاق العقوبات في جولتها الجديدة أمس، سينتظر الجميع نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، اليوم، والتي قد تدعم اندفاعة الرئيس دونالد ترامب إذا جاءت لمصلحة الجمهوريين.
كما أنّ يوم الأحد المقبل سيكون مُهمّاً، إذ سيشهد قمّة بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في باريس، على هامش احتفال الـ100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى، بمشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتتناول أزمات الشرق الأوسط. ومن المقرّر أن يشارك الحريري في هذا الاحتفال.
ولكن، سيكون الأكثر حيوية للبنان، في احتفال باريس، اللقاءُ المنتظر بين ماكرون ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. وواضح أنّ الضيف الإسرائيلي سيجدِّد تحذيرَه للبنان من وجود مصانع للصواريخ على أرضه، يقيمها «حزب الله»، بدعم من إيران.
ووفق العديد من المصادر، طلب الإسرائيليون من باريس، في الأيام الأخيرة، عبر أقنية مباشرة وغير مباشرة، إبلاغ رئيس الجمهورية ميشال عون والحريري بأنهم لن ينتظروا «حزب الله» إلى ما لا نهاية ليزيل هذه المصانع، وسيتحرّكون أخيراً لمعالجة الأمر بأنفسهم، أي إنهم سيستهدفون هذه المواقع بعملية عسكرية.
وفي الموازاة، كانت التقارير قد تحدثت عن أنّ نتنياهو نقل إلى عُمان الرسالة إياها، خلال لقائه الأخير مع السلطان قابوس، على أن يقوم بنقلها إلى طهران. وكان وزير الخارجية العُماني محمد بن عوض الحسان قد زار العاصمة الإيرانية قبل يومين من زيارة نتنياهو لمسقط.
والموفد الرئاسي الفرنسي أوريليان لو شوفالييه Aurélien le Chevalier الذي وصل قبل يومين إلى بيروت هو الذي تلقّى رسالة نتنياهو خلال لقائه في القدس رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي. وبالتأكيد سيرفعها إلى المسؤولين اللبنانيين، لأنّ فرنسا ترى في الأمر خطراً بالغاً، وهو طارئ أكثر من السعي الفرنسي إلى تطبيق بنود «سيدر».
فموفد ماكرون المكلّف متابعة مؤتمر «سيدر» هو بيار دوكان. وتكليف لو شوفالييه يَنْصَبُّ خصوصاً على التهديدات الإسرائيلية المثيرة للهواجس الفرنسية. ولو شوفالييه يشغل اليوم منصبَ المستشار الديبلوماسي لماكرون، وهو يعرف لبنان جيداً من خلال منصبه السابق كمستشار ثقافي للسفارة الفرنسية في بيروت. وهو التقى أمس وزير الخارجية جبران باسيل وناقش معه الملفات قيد البحث.
طبعاً، كل هذه المعطيات يقرأها الرئيس سعد الحريري بدقّة. ومع أنّ زيارته الأخيرة، غير المعلن عنها مسبقاً، لفرنسا ليست رسمية، فثمة مَن يعتقد أنها كانت أيضاً فرصة لوضع الفرنسيين في الصورة الأكثر قلقاً، حيث لبنان يخشى «الآتي الأعظم»، وفق تعبير ركن نيابي بارز، بناءً على الصورة الآتية:
تأليف الحكومة يتعثّر، في موازاة عقوبات اقتصادية تزداد اتّساعاً، في أسوأ ظروف اقتصادية ومالية ونقدية يمرّ بها لبنان، ووسط مخاوف من ضربة عسكرية إسرائيلية قد تكون مفاعيلها كارثية. ولذلك، سيكون على الفرنسيين أن يعملوا على 4 خطوط لدعم لبنان:
1 – الحدّ من مفاعيل العقوبات الأميركية الجديدة بحيث تبقى محصورة في إطارها الضيّق، أي أن تشمل «حزب الله» وكوادره ومؤسساته، ولا يتّسع نطاقها لتشمل مسؤولين ومؤسسات رسمية أو خاصة.
2 – إزالة الذرائع التي يرفعها الجانب الإسرائيلي لتهديد لبنان بتوجيه ضربة عسكرية إليه يمكن أنه تعيده سنوات إلى الوراء.
3 – بذل الجهود مع القوى الداخلية، ومع القوى الإقليمية والدولية- ولا سيما إيران والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة- لحماية استقرار لبنان السياسي، من خلال التوسّط لولادة حكومة فاعلة في أقرب ما يمكن.
4 – مساعدة لبنان للحفاظ على ما توافر له من دعمٍ مالي، في شكل قروض أو من مِنَح، في مؤتمر «سيدر». وكان الفرنسيون عبّروا للجانب اللبناني عن خشيتهم من تراجع العديد من الدول عن التزاماتها في هذا المؤتمر إذا تأخّرت ولادة الحكومة. فثمّة معطيات جديدة يمكن أن تطرأ لدى هذه الدول وتجعل لبنان في مراتب متأخّرة من الاهتمام، فيما هو يعاني مأزقاً خطراً في ظل عدم إقرار الإصلاحات والرزوح تحت وطأة النزوح.
لذلك، وفيما تتأخّر عودة الحريري من باريس، يجول الموفد الفرنسي لو شوفالييه على المسؤولين في لبنان. وكان السفير الفرنسي برونو فوشيه زار القصر الجمهوري قبل يومين، وجرى بحث في الملفات الساخنة، مع التذكير بأنّ ماكرون سيزور بيروت في شباط المقبل. والأبرز هو اتّجاه فرنسا مجدداً إلى استعادة حراكها الديبلوماسي مع الإيرانيين، من خلال موفد لها إلى طهران.
لكنّ المشكلة لدى الفرنسيين تبقى إياها: في لعبة المصالح بين القوى الكبرى، إلى أيِّ حدّ هم يمتلكون الرصيد الكافي لتسويق مبادراتهم؟ وهذه المشكلة لطالما اعترضتهم في وساطاتهم السابقة مع إيران، ولا سيما في مسعاهم إلى ملء الفراغ في موقع الرئاسة الأولى على مدى أكثر من عامين.
فقد أظهر الإيرانيون حينذاك استعداداً لـ«يبيعوا» التسوية، ولكن ضمن صفقة مثمرة، أرادوها مع واشنطن القادرة على تأدية الثمن، وليس مع باريس التي كانوا أيضاً يستاؤون من موقفها في سوريا.
ولذلك، يحاول ماكرون أن يسوِّقَ مشروعاً على مستوى الشرق الأوسط، يكون مقبولاً عربياً، ويمكن أن يكون بديلاً لمشروع ترامب «صفقة القرن» الذي يلقى اعتراضات. وهو يحاول من خلال هذا المشروع فرض الحضور الفرنسي في أزمات المنطقة وتسوياتها.
هل يستفيد لبنان، وتحديداً الرئيس الحريري، من الزخم الفرنسي بقيادة ماكرون؟ المتابعون يعتقدون أنّ الوساطة الفرنسية باتت اليوم ضمانة أساسية للاستقرار اللبناني. والمَحاور التي يعمل عليها الفرنسيون لمساعدة لبنان كلها فائقة الأهمية. ومعها إما يغرق في الأزمة أو يعوم.
ولذلك، يراهن الحريري بقوة على ماكرون، لأن لا أصدقاء دوليين له، أفضل منه. وصحيح أنّ الجهود الفرنسية غير مضمونة النتائج، إقليمياً ودولياً، في مساعدة لبنان، لكنها على الأقل كفيلة بالحدّ من مخاطر «الآتي الأعظم»!