كتب علي نون في صحيفة “المستقبل”:
في واحدة من خلفيات وأماميات موقف “حزب الله” من توزير أحد النواب السنّة الدائرين في مداره وفلكه وسياسته ورعايته الأكيدة، رغبة في تلوين مذهبيّته بإطار عابر فوقها من دون أن يؤثر ذلك في سياساته وتوجهاته وقراراته وثقافته الأولى! أي تماماً مثلما فعلت السلطة الفئوية الأسدية على مرّ عقود تسلّطها وتحكّمها بالسوريين: جاءت بواجهات وأسماء من “الأكثرية” السورية كي تقول (لمن؟!) أنها ليست فئوية!
والمعضلة في الأساس، أن الجذر المذهبي الذي يصدر عنه الحزب وراعيته إيران جعل الالتزام بالقضية الفلسطينية الإسلامية الجامعة والأولى، بنداً حقيقياً في أجندة السعي والدبيب في البيان والميدان، لكنه في تجلياته وتعبيراته العراقية والسورية واليمنية واللبنانية والبحرينية والخليجية والعربية العامة، بدا (ذلك الجذر) ناصعاً وشديد الوضوح والسفور والعلنية قصداً وعمداً.. بل كان ولا يزال الأساس والعصب، الذي يحرّك كل تفصيل آخر. أكان لتثبيت السلطة في أرضها (إيران) أو لدفعها خارج الحدود والسدود انطلاقاً من “قرار” مدّ الولاية على كل الشيعة أينما كانوا. قبلوا أو رفضوا.. أو لتثبيت الاختلاف وتأكيد الافتراق أو التمايز أو الثنائية داخل الجسم الإسلامي “الواحد” والعام! أو حتى مثلما هو واضح داخل “البيت الشيعي”، لطمس الاجتهادات المضادة لمبدأ “ولاية الفقيه” وتأكيد ريادة أصحابها وأهليتهم لقيادة أجندة الإحياء المذهبي!
القيادة الإيرانية وأتباعها وعمّالها ومريدوها لا يخفون شيئاً من برنامج عملهم. بل يتعمّدون العكس تماماً ويدأبون على تأكيد جعل المذهب عصب السياسة الخاصة. وأداتها وهدفها وخلاصتها وعنوانها وتفرّعاتها حتى صارت الفتنة الحارّة بديلاً من الاختلاف السياسي. أو من تضارب وجهات النظر في شأن قضايا العرب والمسلمين والعلاقات مع العالم الأوسع شرقاً وغرباً: لم يؤخذ الحوثيون في اليمن لأنهم صفوة الجيش الذي سيزحف لتحرير القدس بل لتمايزهم المذهبي! وإن كانت نسبتهم من عموم اليمنيين لا تتعدى السبعة أو الثمانية في المئة! ولم يُنكب شعب سوريا بأكثريّته لأنه صفوة “التآمر” على “قضايا الأمة” بل لأنه ثار على حكم فئوي مربوط بصلة مذهبية (وإن كانت ملتبسة) بالإطار المذهبي الذي لمّعته “الثورة” في إيران! ولم تٌبنَ السياسات الاختراقية في الجسم الأهلي العراقي على وقع الموقف من “الاحتلال” الأميركي بل على الأساس ذاته الذي سرى يمنيّاً وسوريّاً! ولم تحصل الواقعات التآمرية في البحرين أو الكويت أو محاولة ذلك في السعودية على أساس الاختلافات السياسية في شأن “العلاقة مع الأميركيين” مثلاً أو الكيفية المثلى لمقاربة أمر التسوية مع إسرائيل سلباً أو إيجاباً بل (حصلت) على وقع البعد المذهبي ذاته ووحده! ولم ينشأ “حزب الله” ويتطور في لبنان على وقع التعبئة لمقاتلة إسرائيل (فقط!) بل على وقع الانتماء المذهبي والتماهي العقيدي مع طهران سياسياً وقُم دينياً وفقهياً!
.. وأمرٌ غريب فعلاً وقولاً، أن يستهجن “حزب الله” استخدام “الأغيار” أدواته ذاتها لرفض تدخلاته في شؤونهم! وأن يتقزّم المخيال السياسي عنده إلى حدود “الوفاء” لتبرير سياسة إيرانية أو لإعطائها عنواناً لبنانياً! أو أن يعتمد تكتيكات مستحدثة للتعويض في التوزير عن تراجع أو ضمور الاختراق الميداني من خلال ما يُسمّى “سرايا المقاومة”، أو أن يُسمّم المناخ التسووي المحلي العام في ذروة “رسائل” إسرائيلية تهديدية وخطيرة وطازجة!.. حزب مُدرَّع ومبدئي وقوي إلى هذا الحدّ يُفترض به أن يكون شديد الوضوح في مواقفه! وأن يعرضها من دون رتوش وتذويقات وتلوينات خصوصاً إذا كانت هذه فاقدة لأي منطق حسابي بسيط. كأن “يربح” وزيراً ويثبّت خسارته لطائفة تامة! أو كأن يعطّل دولة بأمّها وأبيها من أجل “وزير” واحد! أو أن يعطي للتكتيكات الإيرانية الكبرى والواسعة الراهنة عنواناً فرعياً محلياً، وعلى هذا القدر من الهامشية والاستلحاق!!