بعد سنوات من التقاعس عن القيام بواجباتها، وأولها تأمين الكهرباء، ثم تنظيم قطاع المولدات، قررت الدولة التحرك. تحركها كان ناقصاً، وغير منظم، ولم يكن مجحفاً بحق أصحاب المولدات وأرباحهم. رغم ذلك، قررت المافيا التمرد، وتدفيع المشتركين الثمن، بصفتهم الحلقة الأضعف. هذه المرة، تبدو «الدولة» جدية بالتصدي لهم، بعد رفع الغطاء السياسي عنهم
ظن أصحاب المولدات أنهم بقطعهم التيار الكهربائي عن المشتركين، إنما يلوون ذراع الدولة، فإذا بهم يلوون ذراع الناس، ويؤلّبون الرأي العام ضدهم. قيل لأصحاب المولدات مراراً إن التهديد بالعتمة خط أحمر، فإذا بهم يتخطونه من أول الطريق، قافزين فوق كل الإجراءات التي كان يمكنهم اتباعها للاعتراض على قرار وزارة الاقتصاد تركيب العدادات، الذي يرونه جائراً، فيما يراه الناس أنه أتى متأخراً سنوات، ولا يزال ناقصاً.
لأنهم دولة أكبر من الدولة، لم يجدوا في القرار ما يستدعي تنفيذه، ففاتهم أن الدولة قررت أن تكشف عن أنيابها، لتغطي عيوبها وعجزها عن تأمين أبسط حقوق الناس، أي الماء والكهرباء، فكان أصحاب المولدات وسيلتها لإثبات هيبتها.
ما فعله أصحاب المولدات أنهم ردوا على اتهام وزير الاقتصاد لهم بأنهم مافيا، بتأكيد ذلك فعلاً وقولاً. ذهبوا إلى الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، إلى الناس، ليمارسوا عليهم سلطتهم المستمدة من تحكمهم بخدمة عامة، فقطعوها عنهم ببساطة. ظنوا أنهم بذلك يتمردون، فانقلب السحر على الساحر. وبعدما بدأت تتراجع حماسة وزارة الاقتصاد على تنفيذ قرارها، استنفرت الدولة بأجهزتها ووزاراتها وبلدياتها رداً على الخطوة المتهوّرة وغير الاخلاقية من أصحاب المولدات. حتى الناس الذين فقدوا الأمل بالدولة والسلطة، وقفوا إلى جانبها في هذه المعركة. هم ربما أكثر من يعرف مقدار المافيوية التي يمارسها جزء من هؤلاء منذ عشرات السنين، مستغلين حاجة الناس لهم. ركّبوا الأسعار كما يحلو لهم، ولم تتذكرهم الدولة إلا منذ سنوات معدودة، حين صارت وزارة الطاقة تحدد جدولاً للأسعار، لا يلتزمه إلا قلة. هم جمعوا ثروات طائلة من الناس، وهؤلاء سيضحكون عندما يسمعون أن قرار وزارة الاقتصاد سيسبب لهم خسائر فادحة. فيما كانوا يتابعون يوماً بعد يوم كيف تراجع وزير الاقتصاد عن قراراته نزولاً عند رغبة أصحاب المولدات، فأهداهم التأمين قبل أن يتراجع عنه جزئياً، وقبله اتفقت وزارتا الاقتصاد والطاقة على رفع سعر الكيلوواط من 330 ليرة إلى 410 ليرات، قبل أن يصل هذا الشهر إلى 439 ليرة. واللافت أنه فيما يسوّق أصحاب المولدات أن السعر العادل لا يقل عن 700 ليرة، فاتهم أن زملاء لهم في مناطق عديدة، يعتمدون على العدادات منذ زمن، ويسعّرون الكيلوواط بما بين 410 و450 ليرة، يضاف إليه عرض بتأمين كهرباء المصعد مجاناً إذا اشترك 10 قاطنين في المبنى مع مولّد واحد. وبناءً على ذلك، يمكن تأكيد أن السعر الذي فرضته الوزارة، نزولاً عند اعتراض أصحاب المولّدات، ليس مجحفاً، بل يحقق لهم أرباحاً طائلة.
أمس، لم يمرّ قرار قطع كهرباء المولدات لساعتين بسلام. كانت العواقب وخيمة. حتى البلديات، المتواطئة في معظمها، لم تستطع تغطية من قطع التيار عن الناس، فسطرت بحقه المخالفات. وفيما كانت صرخة أصحاب المولدات مرتفعة في المؤتمر الصحافي الذي عقدوه أول من أمس، رداً على ما سمّوه «الإهانات» التي تعرضوا لها من القوى الأمنية التي استدعتهم وجعلتهم يوقعون على تعهد بتنفيذ قرار «الاقتصاد»، استمرت حملة التوقيفات بحق المخالفين منهم، وطاولت حتى من تلا البيان باسم تجمُّع أصحاب المولدات عبدو سعادة. ولأن المعركة صارت حامية، استمرّ أصحاب المولدات في خطواتهم التصعيدية، فاعتصموا أمام المركز الرئيسي لأمن الدولة، مطالبين بالإفراج عن زميلهم. وفيما سعى هؤلاء إلى الحصول على غطاء سياسي من الرئيس نبيه بري، معلنين أنه سيستقلبهم اليوم، كذّبت عين التينة الخبر، وأعلن المكتب الإعلامي لرئيس المجلس أن «جدول مواعيد الرئيس بري ليوم غد، لا يتضمن أي موعد مع أصحاب المولدات الكهربائية».
في هذا الوقت، كان الوزيران سليم جريصاتي ورائد خوري يعقدان مؤتمراً صحافياً مشتركاً في وزارة العدل، أكملا فيه على المنوال التصعيدي نفسه. فأشار جريصاتي إلى أن «التمرد الذي حصل استدعى منا توجيه طلب إلى النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي سمير حمود، بمقتضى المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لإجراء التعقبات بحق من هدد وحذر ونفذ وحرض وشارك في تنفيذ قرار قطع الكهرباء، بمواد جرمية هي التعدي على الحقوق والواجبات المدنية وعلى حرية العمل، والتمرد على السلطة العامة واغتصاب الأملاك العامة والخاصة، ومخالفة التدابير الصادرة عن السلطة».
أما خوري، فأعاد التأكيد أن «التشدد في المواقف والتصعيد لا يجرّ إلا التشدد في تطبيق القوانين والأنظمة، لذلك أتمنى عليهم تركيب العدادات وإنهاء الموضوع، لأن مصالح الشعب فوق مصالحهم».