كتب بروفسور جاسم عجاقة في “الجمهورية”:
في حين تتخبّط السلطة السياسية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، تأخذ المالية العامّة منحى مأساوياً مع ازدياد العجز، ومعه الدين العام وخدمته. ومع غياب أية إجراءات حكومية لِلَجم التردّي الحالي، أصبح الدين العام يُشكّل خطرًا فعليًا على الكيان اللبناني قد يضعه تحت الوصاية الصندوقية في أقلّ من عامين، إلّا إذا تمّ القيام بعدد من الخطوات، ومنها إعادة فرض رسوم جمركية على البضائع المُستوردة.
80 في المئة نسبة النمو المطلوبة لكسر المنحى التصاعدي للدين العام. هذا ما تُظهره محاكاة لتطوّر الدين العام مبنية على فرضيات ماكرو- إقتصادية تفاؤلية. وهنا يُطرح السؤال: كيف يُمكن للبنان تحقيق هذا المستوى من النمو؟
الجواب يفرض معرفة ما ينتظرنا في ظل سيناريوهين: الأول ستاتيكو، والثاني تشاؤمي. السيناريو الأول يعتمد على نسَب نمو موازية للنسب المُسجّلة حاليًا، أي ما بين 1 إلى 1.5%، مع زيادة في الإنفاق موازية لمُعدّل الزيادة منذ العام 2007. هذا السيناريو يجعل عام 2022 العام الذي ستُعلن فيه الدولة عجزها، وستُصبح مُلزمة طلب مساعدة صندوق النقد الدولي.
السيناريو الثاني هو سيناريو تشاؤمي يعتمد على نسبة نمو 1% مع مُعدّل ارتفاع في الإنفاق العام يوازي 15%. في ظل هذا السيناريو، وصاية صندوق النقد الدولي ستحصل في أواخر العام 2020! هذه الأرقام تُظهر أنّ الدولة اللبنانية أصبحت تلعب بالنار مع تفاقم العقبات التي تُواجه تشكيل الحكومة، وبالتالي فإنّ كل يوم تأخير يزيد من الكلفة المالية على الدولة على الشكل التالي: 25 مليون د.أ. في العام 2018، 39 مليون د.أ. في 2019، وتقفز إلى أكثر من 75 مليون د.أ. في 2020.
على هذا الصعيد تظهر “نقطة اللارجوع”، أي تاريخ وصول الناتج المحلّي الإجمالي إلى 200% (أي تاريخ الوقوع تحت الوصاية الصندوقية) في منتصف العام 2022 في ظل سيناريو الستاتيكو، في حين أنها تصبح في أوائل العام 2021 في ظل سيناريو تشاؤمي. هذا الواقع يُظهر أنّ الدولة اللبنانية أصبحت تلعب بالنار، مع اعتقادها أنّ المصارف ستستمر بتمويل عجزها إلى ما لا نهاية!
نعم، إنّ مصرف لبنان والمصارف التجارية تعلم مُسبقًا أنه لا يمكن تمويل الإنفاق الجاري للدولة اللبنانية إلى ما لا نهاية. وبالتالي، هي مدعوّة إلى:
أولاً – فرض شروط إصلاحية على الدولة اللبنانية تتمثّل بخفض الإنفاق الجاري الذي يُشكّل أكثر من 95% من الإنفاق العام، وأن تقوم الدولة بوَضع خطة منطقية وواقعية لِلَجم الدين العام من خلال السيطرة على خدمة الدين العام وعجز الموازنة.
ثانياً – إقراض الدولة على فترات طويلة بفوائد أقلّ من السوق، واستخدام نظام فوائد معروف بإسم “البالون” أي أن تكون الفوائد قليلة في المرحلة المُمتدة من تاريخ بدء الإصلاحات ولمدّة 3 سنوات، على أن تُعاود الفوائد إلى الارتفاع حين يتمّ السيطرة على العجز في الموازنة.
أظهر تقرير وزارة المال حول أداء المالية العامة في الأشهر الستة الأولى من العام 2018 تراجعًا في إيرادات الدولة بقيمة 500 مليار ليرة مقارنة بالفترة نفسها من العام 2017، كما زاد الإنفاق على الفترة نفسها بقيمة 2500 مليار ليرة لبنانية مُنذرًا بعجز قد يوازي الـ 6,6 مليارات دولار أميركي في العام 2018 مقارنة بعجز مُقدّر بـ 4,8 مليارات د.أ. في موازنة العام 2018!
لكنّ الأصعب في هذا التقرير هو أداء الاقتصاد اللبناني الذي يُظهر تراجعًا واضحًا من خلال الميزان الأوّلي. فلقد سجّل عجزًا بقيمة 235 مليار ليرة في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي مقارنة بفائض 2500 مليار ليرة في الفترة نفسها من العام 2017. وأهمية هذا الميزان أنه يُظهر مدى الانتظام المالي للدولة حيث يجب أن يكون أكبر من خدمة الدين العام، لكي يكون هناك انتظام مالي. إلّا أنّ خدمة الدين العام على الفترة نفسها بلغت 4195 مليار ليرة لبنانية، ما يعني أنّ إيرادات الدولة لم تعد تستطيع أن تُغطّي خدمة الدين العام، لا بل أن الدين العام سيزيد بقيمة خدمة الدين العام إضافة إلى قيمة عجز الميزان الأوّلي، أي ما يوازي مرتين 4195 + 235 مليار ليرة لبنانية!
هذه الأرقام تُظهر مدى خطورة الوضع المالي للدولة، والتي لا يمكنها الاستمرار على هذا النمط، لأنه، وكما أظهرنا أعلاه، لم يعد هناك من هامش في الوقت يسمح بتغيير الوضع المالي. فكّل إجراء مهما كانت طبعته (إقتصادي، مالي، ضريبي أو إداري) يحتاج إلى وقت ليُعطي مفعوله، وبالتالي هناك إلزامية لتشكيل الحكومة والإسراع في تنفيذ الإصلاحات.
في ظلّ هذا الوضع، هناك عدد من الإجراءات المُتوجّب أن يقوم بها المواطن، والتي تُساعد (في ظل غياب الحكومة) على لجم التدهور الإقتصادي والمالي، وعلى رأسها خفض شراء البضائع الأجنبية واستبدالها ببضائع وسلَع لبنانية. فكلّ عام يخرج من الاقتصاد اللبناني أكثر من 14 مليار دولار أميركي، نتيجة الإفراط في استيراد البضائع الأجنبية. هذا المبلغ يفرض على مصرف لبنان جذب رؤوس أموال بقيمة تجعل ميزان المدفوعات إيجابيًا. وهذا يعني أنّ كل مواطن لبناني مسؤول أيضًا، من خلال سلوكه الاستهلاكي، عن خلق مشاكل إقتصادية ومالية ونقدية.
أمّا في ما يخصّ الدولة اللبنانية، فإنها مدعوّة إلى فرض رسوم جمركية عالية على كل البضائع والسلع المُستوردة التي لها مثيل في لبنان. هذا الأمر سيحدّ من استيراد البضائع والسلع الأجنبية ويزيد من الطلب على البضائع اللبنانية، مما يعني المزيد من الاسثمارات والوظائف. أضف إلى ذلك أنّ خزينة الدولة ستنعم بقليل من المداخيل المالية الناتجة عن هذه الرسوم.
على الصعيد النقدي، ما تزال الليرة تتمتّع بدعم كبير من الاحتياط من العملات الأجنبية، والتي تُظهر تحاليلنا أنها كافية للدفاع عن الليرة في المرحلة المُقبلة، خصوصًا أنّ المصرف المركزي لم يستنفد كل أسلحته، وبالتحديد هناك سلاح يمتلكه مصرف لبنان (نتحفّظ عن ذكره) كفيل بالقضاء على كل مُضارِب على الليرة اللبنانية مهما بلغ حجمه. إلّا أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الليرة ليست تحت ضغط يومي، نتيجة التلكؤ في تشكيل الحكومة والتأخّر في تنفيذ الإصلاحات وتحفيز النمو الاقتصادي.
في الختام، نُناشد الأفرقاء السياسيين الإسراع في حل عقدة الحكومة والبدء بتنفيذ كل ما هو مطلوب، قبل الوصول إلى نقطة اللارجوع التي ستكون موجِعة للمواطن اللبناني.