تحقيق رولان خاطر
“لا حرب ولا مفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية”، كلام لمرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي في 13 آب 2018.
في 4 تشرين الثاني 2018، قال خامنئي: “إن الولايات المتحدة اليوم تبدو ضعيفة ولا تمتلك أدوات فرض إرادتها أو هيمنتها على أحد، وأن الحرب الاقتصادية على بلاده ستفشل، والقوة الناعمة الأميركية باتت مهترئة، إنها تتجه نحو الاضمحلال”.
في 8 تشرين الثاني 2018، “الولايات المتحدة لا ترى أي اشارات لاستعداد ايران للجلوس إلى طاولة المفاوضات لكنها تأمل أن تقوم بذلك”. كلام وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى الإذاعة البريطانية.
التغيرات والتحديات
إذاً، ذهنية جديدة ورؤى مغايرة لخلفه أتى بها دونالد ترامب، وخصوصاً في ما يتعلق بسياسة الشرق الأوسط وإيران. قرّر ترامب أن يكبح جموح طهران التوسعي في المنطقة. بعضٌ من يعتبر أن ايران تدرك أنها مقبلة على واقع صعب، والنظام فيها يعرف جيدًا أنه المستهدف الرئيسي من نظام العقوبات الأميركي، حتى وإن كان الهدف المعلن لهذه العقوبات هو معالجة الدور الإقليمي الإيراني في الشرق الأوسط، وإنتاج اتفاق نووي جديد بشروط الإدارة الأميركية الجديدة.
انطلاقا من هذا المعطى، التحديات الحقيقية التي تعيشها إيران اليوم، وتحديدًا بعد 6 آب تاريخ دخول المرحلة الأولى من العقوبات حيز التنفيذ، وبعد 5 تشرين الثاني تاريخ الحزمة الثانية من العقوبات، جعلت مسألة مستقبل نظامها السياسي يخضع لكثير من التوقعات والاستفسارات. فهل يصمد؟
سيناريوات المواجهة!
لدى إيران عدد من السيناريوهات الموضوعة على الطاولة للتعامل مع الصعوبات المتوقعة، يقول المسؤولون الايرانيون، فبالنسبة إليهم، ما يسمّى بـ”الاقتصاد المقاوم” قادر على مواجهة الحصار الذي يُفرض على طهران، خصوصاً انها ليست المرّة الأولى التي تخضع طهران لهذه الأنواع من الضغوط.
ولكن، وبعد دخول العقوبات الجديدة حيّز التنفيذ، باتت كل التقارير تتحدث عن تهالك في الاقتصاد الايراني، انخفاض تاريخي للعملة الإيرانية أمام الدولار، الشركات العالمية تغادر البلاد. الحصار المالي على أشدّه، حتى “سويفت” دخلت طرفاً مع الأميركيين. تظاهرات احتجاجية ما زالت نشطة في كل أنحاء البلاد. التزام أغلب الدول ولو مرغمة، بنظام العقوبات الأميركية بما فيها العراق وحتى الصين خفّضت من استيراد النفط الايراني.
الكاتب والصحافي مصطفى فحص أشار لـIMLebanon إلى أنه من الطبيعي أن يتظاهر النظام الايراني بالقوة والقدرة على الالتفاف على العقوبات والاستفادة من الثغرات في قانون العقوبات لكن هذه العقوبات تختلف عن سابقاتها وعن تلك التي فرضتها إدارة باراك أوباما. فالهامش الذي أعطي لايران خلال عقوبات أوباما والذي أجلسها إلى طاولة جنيف، ليس موجوداً اليوم، وبالتالي فإن محاولة طهران استغلال الثغرات المتاحة في نظام العقوبات الجديدة، والاستفادة القصوى من الهامش الذي وضعته واشنطن للدول الثمانية المعفاة مرحلياً من العقوبات على استيراد النفط من إيران، لا تكفي لأن تصمد، خصوصاً أن إدارة الرئيس دونالد ترامب عازمة على سدّ كل هذه الثغرات في وقت لاحق.
وإذ أكد ردا على سؤال أن كل الطرق التي كانت حيوية بالنسبة للاقتصاد الايراني مثل دبي وتركيا والصين وروسيا لن تكون متاحة مستقبلاً، رأى أن ما بقي أمام النظام في ايران هو تغيير سلوكه، فالأميركيون قالوا: “إنهم يريدون تغيير سلوك النظام الإيراني وليس تغيير النظام”.
الكاتب والصحافي ابراهيم بيرم يقول لـIMLebanon: “إن العقوبات ليست جديدة على إيران، فهي تمتد لنحو 4 عقود، وهي عرفت وتعرف كيف تتعامل مع العقوبات الجديدة وتحديدا في المجال المالي والنفطي، وهي منذ مدة بدأت عملية التكيّف مع العقوبات عبر وضع اجراءات سياسية وامنية واقتصادية مسبقة”، لكنه لم يستبعد وجود ضغوط وتبعات اليوم على الاقتصاد الايراني نتيجة قسوة هذه العقوبات التي فرضتها واشنطن.
ورأى أن هناك إجراءات عدة اتخذها النظام الإيراني عبر احتياطي الذهب، إضافة الى خطط اقتصادية، والأهم إبقاء الأوروبيين قناة التواصل مفتوحة مع الإيرانيين بأشكال متعددة. كما أن إيران تراهن على مسألة اعفاء الدول الـ8 من العقوبات حالياً، خصوصا ان هذه الدول تستهلك اكثر من ثلثي النفط الايراني وبالتالي هذه العقوبات بالنسبة لايران فقدت من قيمتها بهذا القرار، وهذا ما يمنحها القدرة والوقت على الصمود إلى حين.
ويشير بيرم إلى انه على الرغم من تراجع الريال الايراني امام الدولار في الفترة التي انسحبت منها أميركا من الاتفاق النووي، إلا أن السلطات الايرانية اتخذت مجموعة اجراءات تكيفت مع الأمر، وهي عازمة على المواجهة، ولو ان العقوبات هذه المرة تختلف عن سابقاتها. فإيران بحسب بيرم بنت بنية اقتصادية تتكيّف مع أي عقوبات يمكن ان تفرض عليها”.
بيرم استبعد أن يكون الايرانيون يراهنون على نتائج الانتخابات النصفية الأميركية للمستقبل، لأنهم لم يكونوا على اتفاق مع اي عهد أميركي، أكان مع الديمقراطيين أو الجمهوريين، لافتاً إلى أن الايرانيين لديهم شعورا ان ليس المطلوب كسرهم واستسلامهم بل اتفاق نووي جديد مع الغرب يخضعون فيه للشروط الأميركية، لكن ايران ترى ان قدرتها على الصمود تجعلها لن تذهب إلى هكذا اتفاق.
الرهان على عامل إعفاء الدول!
تعد ايران ثالث أكبر منتج للخام في منظمة “أوبك”، وتعتبر الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان من أهم مستوردي صادرات إيران النفطية.
وعلى وقع العقوبات، والتقرير الذي نشره صندوق النقد الدولي، بعنوان “آفاق الاقتصاد العالمي”، والذي توقع فيه انكماش اقتصاد إيران بنسبة 1,5 في المئة هذا العام، و 3,6 في المئة في 2019، تحاول ايران الاستفادة من مبدأ الاعفاء الذي منحته إدارة ترامب للدول الثماني (الصين والهند واليونان وإيطاليا وتايوان واليابان وتركيا وكوريا الجنوبية) لتحقيق مكاسب دعم لاقتصادها، ولكن تجدر الاشارة إلى أمور مهمة:
– هذا الإعفاء سيسمح للدول الـ8 بمواصلة شراء الخام من إيران لمدة 6 أشهر فقط لأسباب تخدم العقوبات، بمعنى لتجنّب رفع أسعار النفط عالمياً.
– نصف الدول تقريباً التي استثنتها واشنطن، تعاني من عقوبات مفروضة عليها من الادارة الاميركية، ان كان روسيا او تركيا او الصين في حربها التجارية مع اميركا.
وعن هذا الموضوع يقول البروفسور جاسم عجاقة لـIMLebanon: “إن الكيان الايراني جيو-اقتصاديا وجيو-سياسيا هو بلد غني ويملك موارد طبيعية غنية، وثروات كثيرة، حتى ان بيئته شبيهة ببيئة لبنان الخضراء سابقاً، وبالتالي ليس بلدا محروما من الثروات. وايران على عهد الشاه كانت تملك اقتصادا من الاقتصادات الاهم في الشرق الاوسط، والذي يعتمد بضخامته بشكل اساس على عدد السكان الكبير وحجم الاستهلاك.
ومنذ وصول النظام الحالي على ايران في أواخر السبعينيات والعقوبات الاميركية مستمرة على رغم اختلاف نسبة قوتها بين مرحلة وأخرى، وصولا الى العقوبات القوية بين عامي 2011 و 2013.
خلال هذه الفترة حرمت ايران من الاستثمارات، مواردها الغنية موجودة، من نفط وغاز ومعادن، لكن هذه الموارد لا يمكن الاستفادة منها من دون استثمارات. والعقوبات الجديدة اليوم تطال الاستثمارات، فيتم حرمان البلد من الأموال، ولا يُسمح له القيام باستثمارات. وبالتالي فإن مسألة بيع النفط تصبح غير منتجة، لذلك تم فرض العقوبات على الموارد الأهم وهي النفط والغاز والبنوك. فالولايات المتحدة تحاول منع ايران من بيع نفطها لقطع الطريق على امكان استحصالها على العملة على الأموال.
عناصر الصمود!
ويرى عجاقة أن هناك عنصرين يجعلان من ايران قادرة على الصمود حالياً: العنصر الأول، تصدّر ايران 2.5 مليون برميل يوميا من النفط الخام، ودول “الاوبك” وحتى روسيا لا يستطيعون تأمينهم. ورأينا في السابق منذ دخول المرحلة الأولى من العقوبات في آب 2018 كيف ارتفع سعر النفط الى 83 دولارا بسبب النقص الذي اصاب السوق لنحو 300 الف برميل. من هنا، فان الرئيس الاميركي دونالد ترامب لن يستطيع فرض العقوبات حزمة واحدة وسيضطر من اجل حماية السوق وحماية النمو الاقتصادي في اميركا ان يطبق العقوبات بشكل تدريجي حتى تستوعب الاسواق النقص في الكمية وإلا سيتخطى سعر برميل النفط الـ100 دولار.
هذا الأمر ترك الباب مفتوحا أمام إيران بحسب عجاقة، الذي اعتبر أن اعفاء الدول الثمانية هو لأنهم اكثر الدول تعاملا مع ايران، وفي الوقت نفسه، يستطيع ترامب من خلالهم الحصول على المعلومات كافة.
اما العنصر الثاني، فهو الحدود بين ايران وتركيا من جهة وايران والعراق من جهة ثانية. فمنذ الفتح الاسلامي والامبراطورية الفارسية سكن قسم من الأتراك في ايران، وهم اليوم عبارة عن مجموعة كبيرة من اشخاص رأسماليين ورجال اعمال، ويحافظون على علاقة جيدة مع تركيا، والدليل أنه خلال العقوبات التي فرضت على ايران في الـ2013، ازداد التبادل التجاري مع ايران 3 أضعاف، علما ان أنقرة هي حليفة الولايات المتحدة، ومن المفترض ان تطبق العقوبات كحليف لها. ولناحية العراق، فإن الحدود أيضاً مفتوحة، ومهما كانت الرقابة شديدة تستطيع ايران استغلال هذه الحدود.
وهناك عنصر ثالث يقول عجاقة قد يساعد على الصمود، لكن لم تستخدمه حتى الآن. ففي العام 2013، واحدة من الوسائل التي كانت تستخدمها ايران للالتفاف على العقوبات، الاستعانة بشركات آسيوية لبيع نفطها، ولو بأسغار منخفضة عن تلك الموجودة في السوق. ومن غير المستبعد أن يتكرر هذا السيناريو اذا قست العقوبات. وبحسب عجاقة، ليس المبادئ هي التي تحكم العالم بل المصالح تطغى دائما، مذكّرا في هذا الإطار، بأنه في العام 2013 تم اتهام بنك hsbc بتعاملات تجارية مع ايران بقيمة 16 مليار دولار.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، وعنصر استثناء الدول الـ8، لا خوف ولا ضرر في الوقت الحالي على الاقتصاد الايراني. هناك لجم تجاري صحيح ولكن لن يصل الى الخنق على المدى المنظور، مستبعداً ان تكون الطريق بين ايران والأوروبيين وسيلة من وسائل التنفس الايراني، لأن الأوروبيين يخضعون للسياسة الاميركية، نظراً لمخاوفهم من روسيا، وحلف الناتو الذي يتشكل من قوة أميركية كبيرة.
تقول العديد من التقارير إن ايران قد تعتمد مثلا مبدأ المقايضة مع دول الجوار لنقل السلع إليها عبر الحدود المشتركة مقابل الطاقة او النفط، قبيل باكستان، لكن الأهم هو كيفية حصولها على العملة الصعبة، اذ سيكون لدى البلاد مشكلة حقيقية وبالغة الصعوبة في نقل العملة الصعبة، وهو ما كانت تفعله سابقاً عبر دبي وتركيا، وهذا لن يكون متاحاً بوجود العقوبات المشددة. وقد تحاول حل هذه المشكلة من خلال المعابر مع أفغانستان والسليمانية في كردستان العراق وستنقل عبرها الحوالات المالية، إلا أن ذلك أيضاً لن يحل الأزمة في المستقبل.
حرب الشعارات… وما المطلوب من ايران؟
إنّ النظام الايراني قد لا ينجح هذه المرة في استخدام أدبياته التي تميز بها، على رأسها “فكرة المظلومية ونظرية المؤامرة”، لتحويل هذه العقوبات إلى قضية نضال وطني ومذهبي في وقت واحد، ولو أنه لا ينأى عن المحاولة. فايران اليوم امام تحديات حقيقية، والردّ بالشعارات التي تطلقها لن يجعل نظامها السياسي ينجح بالعبور الى برّ الأمان.
فالعقوبات ليست حرباً نفسية كما تدعي، وبالتأكيد لن تجعل واشنطن في عزلة، ومسألة الالتفاف على العقوبات وهمية، لأن الإدارة الأميركية هي التي استثنت الدول الثمانية من العقوبات ولكن لفترة محدودة، حفاظاً على استقرار أسعار النفط، علماً أن روسيا وتركيا تخضعان لعقوبات أميركية والصين في حرب تجارية مع أميركا. كما أن إطلاق المفردات “المقاوِمة” كالتي تقول إن ايران ستنتصر بـ”نور الثورة المتجددة” وحرق العالم الاسرائيلي والأميركي، والادعاء بأنها قادرة على ادارة الاقتصاد في ظل العقوبات هو أيضاً من باب المناورة والبروباغندا.
المطلوب من ايران اليوم الجلوس مع الأميركيين لأن هناك مصير شعوب ومصير أمم، كما يقول عجاقة، ولا شيء يمنعهم من ذلك خصوصا أن الرئيس حسن روحاني لديه من الكاريسما والنجاح انه حقق الاتفاق النووي على رغم اعتراض الاميركيين عليه حالياً، وبالتالي يمكنه الاقدام على هذه الخطوة.
في آب 2018 قالها مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون: “إذا أرادت إيران تفادي معاودة فرض العقوبات الأميركية عليها فينبغي أن تقبل عرض الرئيس دونالد ترامب للتفاوض”.
والجمعة 2 تشرين الثاني قال وزير الخارجية مايك بومبيو ووزير الخزانة الاميركي ستيفن مانوشين: “إن العقوبات سوف تظل مفروضة لحين وفاء إيران بطلبات تشمل الامتناع عن دعم الإرهاب، وإنهاء المشاركة العسكرية في الحرب السورية، والوقف التام لنشاط تطوير الصواريخ النووية والباليستية.”
مستجدات من الضروري أن تثير انتباه صناع القرار السياسي في إيران، لاجراء حسابات دقيقة في المرحلة المقبلة. فهل سنكون أمام إيران جديدة أم ان البراغماتية الإيرانية في التعامل مع القوى الكبرى في مفاوضات اللحظة الأخيرة ستنتصر؟ أما سنكون أمام معادلة خامنئي الانتصار أو الانكسار، وبالتالي “لا حرب ولا مفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية”؟.