كتبت إيلده الغصين في صحيفة “الأخبار”:
على خط الأوتوستراد البحري الواصل بين بيروت وخلدة، يستقبل محوّل جسر الناعمة الزوار قبل الوصول إلى الدامور. وسط الساحة، بين الناعمة وحارة الناعمة، ركِّزت منحوتة بعنوان «الأخوّة» صمّمها إبن البلدة النحات عزّت مزهر (1947 ــــ 2009)، جامعاً فيها بين عبارة «لا إله إلا الله» ورسم الصليب. رحل مزهر وترك خلفه عشرات المنحوتات ومنزلاً تحوّل متحفاً. غير أن صليب المجسّم أُزيل وبقيت المنحوتة ناقصة كما أرادها «بعض المتشدّدين». ليس النقص في المنحوتة الطارئ الوحيد على الحارة التي ارتبط اسمها في السنوات الأخيرة بالمتشدّدين والخلايا الإرهابية. لكن هذا الارتباط ليس إلاّ وجهاً «جرى الترويج له» بحسب السكان. في منطقة مختلطة ومفتوحة على مختلف أشكال الوافدين… لسكان الحارة (والناعمة) القدماء كلامٌ آخر!
«الحارة حاملة صيت مش إلها». هكذا يردّ مختار حارة الناعمة شادي حاطوم على الشائعات المتناقلة عن بلدته، فـ«هذا الثوب المُراد لنا لبسه عيارة». لا ينكر «وجود مجموعة يحكم تصرّفاتها الاندفاع والطيش في إقفال الطرقات أو في التعدّيات»، إلاّ أن مختار الحارة يعتبر «أن مجموعة لا يمكنها أن تمثّل بلدة فيها أربعة آلاف نسمة مسجّلين في الحارة وحدها ونحو 50 ألفاً من السكان يتوزّعون بين الحارة والناعمة». يتحدّث المختار أيضاً عن «التقصير اللاحق بشباب المنطقة المحرومين من الوظائف الرسمية»، رغم «تفوّق كثيرين منهم ونجاحهم في مختلف الاختصاصات… اللافتات المرفوعة في الشوارع لتهنئة الطلاب المتفوّقين دليل كافٍ».
حلّ المشاكل يبدأ، برأي حاطوم، «بانخراط أهالي الحارة في الدولة. إذ لا حصّة لبلدتنا حتى في اختيار تلاميذ المدرسة الحربيّة». تطالب المنطقة باحتضان الدولة لها، خصوصاً أن التغيّرات الديموغرافيّة بفعل النزوح الداخلي خلال الحرب اللبنانية، والنزوح السوري أخيراً، حملت معها «تغيّرات على الصعيد الاجتماعي ومشاكل يتوجّب على الدولة التدخّل لمعالجتها» يقول الأهالي. الحرمان في حارة الناعمة «يفعل الكثير»، مع أن الحارة تركت مساحة واسعة من جدرانها وفضائها العام لصور السياسيّين ورؤساء الحكومات. مع ذلك، يلقي أهالي البلدة بأسباب الحرمان «المقصود» على ترسّبات تاريخيّة «لم يعفِ عنها الزمن»، إذ «أن المنطقة تُحاسب على ماضٍ يعود للخمسينات». والمقصود بذلك «ورود اسم أحد أبنائها في محاولة اغتيال أحد الرؤساء».
ما فرّقه الزمن يجمعه «المطمر»
على المقلب الآخر من حارة الناعمة، ذات «الغالبيّة السنيّة» بحسب القاموس اللبناني، تحاول الناعمة بـ«غالبيّتها المسيحيّة» العودة إلى الحياة بعد تهجير الحرب. يروي مختار البلدة مارون عزيز يزبك مآسي التهجير: «في عام 1984 هجّرنا من المنطقة، وعدنا بعد عشرة أعوام بالضبط. هاجرت إلى سويسرا لكنني عدت ولستُ نادماً، مع أن تعويضات التهجير لم تكن كافية لإعمار البيوت المدمّرة: 3 ملايين ليرة شو بتعمل؟». يتذكّر «أبو شربل» أيضاً «سقوط جسر الناعمة المقابل لمنزله جراء قصف العدوّ الإسرائيلي في حرب تمّوز 2006، واستشهاد أحدهم على مسافة أمتار من منزلي، هناك تحت البلْحة، بإحدى غارات طيران العدوّ السبع التي شنّت على المنطقة».
ما يجمع الناعمة والحارة أكبر مما يفرّقهما: انقطاع الكهرباء، المياه المالحة، ومطامر النفايات
غير أنّ ما يجمع الناعمة والحارة أكبر بكثير مما يفرّقهما: انقطاع التيّار الكهربائيّ، مياه الشّفة المالحة، مطامر النفايات… والبلديّة الواحدة حتى الآن. إذ يرفض أهالي الحارة الانفصال لأن «معظم الأراضي تعود لأهالي الناعمة». يختصر المختار يزبك الوضع: «بالنسبة لمياه الشفة فإنها في الصيف بطعم الملح ما يضطرنا الى شراء المياه للغسيل والشرب في انتظار الوعود بسدّ بسري. أما التيار الكهربائي، فقد وُعدنا به مجاناً تعويضاً عن مطمر الناعمة ولم ننلْ شيئاً. حصلت بقية القرى على الكهرباء مجاناً فيما حصدنا نحن وأهل الحارة السرطان».
من دوحة الحص، التلّة المطلّة على الناعمة، تبدو البلدة هادئة. من فوق، يتّضح طريق «سوكلين» إلى داخل الجبال الخضراء حيث مطمر الناعمة – عين درافيل الذي تلازم واسم المنطقة وأكل لسنوات من أعمار سكانها. يقول مختار الناعمة «واجهنا المطمر بقطع الطرقات وتلقّي الضرب من القوى الأمنية ولم يعوّض علينا أحد». لا تقتصر الكارثة البيئيّة على المطمر الشهير وحسب، وإنما على مكبّ عشوائي آخر على شاطئ الناعمة «يبعد نحو مئة متر عن المنازل… رمية حجر»، استحدث على عجل، وقيل إنه «مؤقت». يُراد للمنطقة أن تزنّر بالموت، في بلد ينال فيه ما هو ظرفيّ صفة «الدائم».
موجة إعادة بيع «مستهجنة»
يعود التحوّل الأبرز في ديموغرافيّة حارة الناعمة إلى لجوء عدد كبير من مهجّري وسط البلد (من الباشورة والمصيطبة والمدوّر) إليها بعدما نزلوا في خلدة أولاً، إضافة إلى العديد من «البيارتة» الجنوبيّي الأصل. تبعت هذا التحوّل، فورة في البناء بدأت عام 1993، حيث طغت غالبية سنيّة (ومن عرب المسلخ) على الحارة، إضافة إلى شيعة ودروز. نتيجة هذا التحوّل الطارئ «حدث بيع عشوائي. إذ أجبر الأهالي بفعل الظروف الاقتصادية على بيع أراضيهم أو الاستثمار في البناء وبيع الشقق بالمفرّق» يقول حاطوم، مضيفاً «تأخّرت البلدية في التدخّل وتنظيم عمليات البيع في المرحلة الأولى، حتى طرأت اليوم مشكلة في إعادة البيع، أي أن من بعناه يقوم بالبيع بشكل عشوائي وهنا لا نستطيع الحصر».
يمتدّ على تلال الناعمة المخيم العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــــ القيادة العامة، ظاهراً للعيان حتى حدود الدامور. يعود المخيم الى الستينيات، و«المشاكل تكاد لا تذكر» هذا بحسب أهالي الحارة، في المقابل تقع المعاناة على أهالي الناعمة «لأن النسبة الأكبر من أراضيهم تقع في التلال». جُعل مدخل المخيّم لجهة الحارة، ليشكّل عاملاً إضافياً في الهدوء، بعد تمركز الجيش اللبنانيّ منذ 2005 على مداخله. أما مشروع مزهر السكني «العالِق»، فحكاية أخرى حيث يُشاع «أن بناية سقطت فيه عن قصد، ولم يعد أحد يشتري فيه. والحلّ بيد الدولة التي تريد شراءه لتحويله إلى ثكنة عسكريّة».
في الناعمة والحارة مدرستان رسميّتان: مدرسة الناعمة المختلطة الرسميّة ومتوسّطة حارة الناعمة الرسميّة. يؤكد الجميع أن إنشاء المدرستين «لا علاقة له بالاختلاف الطائفي بل بسبب زيادة عدد السكان والتلاميذ». للمفارقة يدير مدرسة الناعمة زياد أبو نصر إبن البلدة، فيما تتولى زوجته سوزان حمزة إبنة الحارة إدارة متوسّطتها. بعد الحرب تحوّلت مدرسة الناعمة الفرنكوفونية إلى الإنكليزية، لكنّ أبو نصر يحاول كما يقول «تثبيت اللغتين فيها وتالياً منح المسيحيين العائدين من التهجير فرصة التعلّم والتعليم فيها». المدرسة تفتح أبوابها حالياً أمام تلاميذ من النازحين السوريين، يبلغ عددهم نحو ألف، يتلقّون دروسهم بعد انتهاء الدوام الرسميّ.
الختيار صاحب أوّل «سرتفيكا»
يجلس «أبو غسان» في أحد أزقّة الحارة مبتسماً لكلّ عابر سبيل. وُلد الرجل السبعينيّ هنا، بعدما «جاء جدّي من برجا ليسكن في الحارة ويفتتح بيته مصلّى». يسند رأسه بكفّه ويتابع «كانت المنطقة إذا واحد قال آخ تطلع الآخ من صدر الكل، تغيّرت الدنيا. عندما توفّي (الرئيس المصري جمال) عبد الناصر أرخيت ذقني أربعين يوماً ومنعتُ فتح الراديو في المنزل. اليوم تجدين عرساً في شقة وفي الشقة المقابلة جنازة. اليأس متمّلك بعقول الناس. في الماضي كانوا يتعبون على الولد حتى يتعلّم». يشير إلى فتيان متحلّقين حوله ومنشغلين بتنظيف النراجيل وإعدادها، ويكمل: «عندما كنت من عمرهم، كنتُ أدرس على ضوء القنديل مساءً، وأبيع المعمول على باب المدرسة صباحاً، وفي أوقات الفراغ كنا نلعب الكرة الطائرة على الشاطئ. بعد وفاة والدي، تركت المدرسة، لكنني بقيت أتردّد إليها في الصباح وأمدّ يدي من النافذة لأجيب على سؤال تطرحه المعلمة داخل الصف، حتى أُعجبت المعلمة بأجوبتي واندفاعي وساعدتني لأعود للدراسة. مع الأسف، جرى نقل المعلّمة بعد أشهر إلى مدرسةو أخرى. أخبرتني ذلك وهي تبكي». يفاخر أبو غسّان بأنه «أوّل من نال شهادة سرتفيكا في بلدتي. بشّر الشيخ أمي أنني نجحت وكانت حلوينته علبة دخان من نوع لوكي وخمس ليرات».
مكبّ عشوائي جديد ينمو على شاطئ البلدة وكأنما يُراد للمنطقة دائماً أن تزنّر بالموت
يقفز الختيار فوق سنوات الحرب المذهبيّة ليعود إلى الطفولة، «يوم كان إبن الدامور ينادي جدتي: يا عمتي! لم يكن المسيحي يختشّ من المسلم والعكس صحيح. عمّتي مثلاً، أصبحت راهبة مع أننا مسلمون، ولا تزال في أحد الأديرة وعمرها يناهز تسعين عاماً. رفيقي طوني زوجته مسلمة أيضاً. ثمة زواجات مختلطة تحصل الآن». يريد أبو غسان، ويبدو صادقاً في ما يقول، أن يرسم للناعمة وحارتها صورة أجمل من الواقع.
تصرّ حارة الناعمة على جذب جيل الشباب رغم من القدرات المتواضعة. في الحارة، ناديان رياضيّان صنعا لها ذكريات «مجيدة»، هما «الهلال» و«الاتحاد»، ولكلّ منهما فريق كرة قدم. يتابع الفريقان التدريب على ملاعب خاصة وبالإيجار، فيما يترقّبان إنشاء ملعب بلديّ جامع. تحكم روح المنافسة التبارز بين الفريقين والأمر ينسحب على الجمهور أيضاً، وعندما يتبارز الفريقان يمتلئ الملعب. أما مشكلة التمويل فمسألة مشتركة. اللافت أن معظم اللاعبين في الناديين من أبناء الضيعة. يقول رئيس نادي «الهلال» محمد فخر الدين «تأسّس النادي عام 1986، على يد بطل السباحة عبد المنعم فخر الدين قاطع المانش وبطل لبنان أكثر من مرة، قبل سنتين وصل النادي إلى الدرجة الثانية لكنه تراجع بسبب ضعف التمويل، مع أن بعض الناشئين واللاعبين الأساسيين يستحقّ اللعب في درجات أعلى». من جانبه، يتذكّر محمد فخر الدين، نائب رئيس «نادي الاتحاد» (تأسس عام 1968، يرأسه حالياً جابر حمود) كيف «وصل النادي في العامين 1994 و2000 إلى الدرجة الثانية»، مستعيداً «أسماء بعض خريجي النادي ممن حقّقوا نجاحات على صعيد الوطن مثل حسن وعلي وعبد الرحمن مزهر ومعتز الجنيدي وأحمد أبو صالح…».