كتبت مرلين وهبة في “الجمهورية”:
من معراب، وفي 14 تموز 2017، سألنا الدكتور سمير جعجع إذا كان مستعداً لزيارة بنشعي على غرار زيارته الى الرابية في 2015، تمهيداً للمصالحة؟ فأجاب: «إذا اقتضت المصلحة الوطنية والمسيحية أنا مستعد بالتأكيد وسأقصد بنشعي». وسألناه أمس، من باب الصرح البطريركي، والضحكة تملأ وجهه، عن السبب الحقيقي الذي دعاه الى قرار مصافحة ومصالحة سليمان فرنجية رئيس «تيّار المردة» في تشرين؟ فأجاب بضحكة عريضة: «لقد «دعا داعٍ» وهي الوحدة المسيحية الصرفة و«بدّك أحلى وأهم من هيك داعٍ»؟
لم تمنع أمطار تشرين الزعيمين المارونيين اللذين يتسابقان على كرسي الرئاسة، التسابق الى الصرح البطريركي لختم المصالحة «بشمع أحمر»، بعد أن كوى «الدم الأحمر» علاقة الحزبين لأكثر من 50 عاماً. ولم تمنع العاصفة الشتوية مرافقي الزعيمين، من نواب وأعضاء الكتلتين، من التسابق للحضور «كشواهد على أهلهم». كيف لا وتاريخ 14 تشرين الثاني 2018 سيسّطره التاريخ للأجيال المسيحية القادمة.
ففي لحظة تاريخية، نقل الزعيمان المارونيان المشهد السياسي من الحلبة الحكومية الى الحلبة المسيحية – المسيحية، وشغلت أجواء المصالحة اهتمام اللبنانيين كافة، ونَسوا على مدى يوم كامل همّ الحكومة الغارقة في الاستدانة وترقّبهم إفلاس دولتهم !
فالمصالحة المنتظرة شغلتهم أمس بعد طول غياب. وصل سمير جعجع ونواب تكتل «الجمهورية القوية» الى الصرح البطريركي قبل وصول فرنجية، فبَدا الحكيم مستعداً قلباً وقالباً للمصالحة.
وفي دردشة مع النائب ستريدا جعجع التي وصلت الى بكركي مع أعضاء تكتل «الجمهورية القوية» قبل وصول الحكيم، سألناها عن رأيها بالطقس العاصف الشبيه الى حد كبير بالطقس إبّان مصالحة إعلان النوايا في معراب، فعَلّقَت أنّ «الطقس اليوم نَذير خير وبركة وشاهد على نوايانا البيضاء رغم ضبابيته، فلا عواصف تمنعنا من المصالحات حين تكون نوايانا بيضاء».
وصل نواب «المردة» قبل وصول رئيس التيار سليمان فرنجية، الذي وصل برفقة ابنه النائب طوني فرنجية، ودخل القاعة حيث كان يجلس البطريرك يتوسّطه الدكتور سمير جعجع والنائب ستريدا جعجع.
تقدّم فرنجية لمصافحة سَيّد الصرح، ومن بعدها صافحَ سمير جعجع وتبادل معه القبَل وسط الهتافات والتصفيق، ثم صافحَ فرنجية النائب ستريدا جعجع وقبّلها أيضاً، وبَدت علامات التأثر على وجه جميع الحاضرين…
صلاة مؤثّرة للبطريرك تَلت المصافحة التي أنصَتَ إليها جعجع وفرنجية بتمّعن، بالإضافة الى الحاضرين. بعدها، انتقل الزعيمان للاجتماع في قاعة مغلقة جانبية لمدة تجاوزت نصف الساعة، ليخرج بعدها الجميع ويتوجّهوا الى القاعة الرئيسية الحمراء، ويتلو المطران جوزف نفّاع بيان المصالحة الذي ستسجّله حُكماً كتب التاريخ.
أجمل المشاهد هي الاخبار التي بدأت تتواتر الى الصرح البطريركي، والتي أفادت انّ أجراس الكنائس في بشري وزغرتا قرعت فرحاً تتويجاً للمصالحة واحتراماً لها، وقد لاقاهم جرس بكركي بقرع جَرس المصالحة الحقيقية التي ستسطّرها سجّلات بكركي بحروف ذهبية.
وعندما أعلمنا النائب ستريدا جعجع بخبر قرع الأجراس في المناطق الشمالية، وسألناها عن رأيها، قالت لـ«الجمهورية» إنّ «الاجراس التي تدق تدلّ الى انّ الناس الأنقياء القلوب يعبّرون عن فرحتهم. وأنا اليوم كمسيحية مارونيىة أقول من تحت سقف بكركي وجرسها: انشالله أجراسنا وأجراس المصالحة بتضَلّ تدِق».
النائب فرنجية: مصالحتنا ثابتة
أمّا عن توقيت هذه المصالحة فقال النائب طوني فرنجية لـ«الجمهورية»: «هي ليست آنية وقد أسّسنا لها منذ سنتين مع الرفاق وبعلم أهالي الشهداء. ونحن اليوم إخترنا تتويجَها في بكركي».
وعن نيّة «المردة» في استثمار المصالحة سياسياً؟ سارعَ فرنجية للقول: «اذا أردنا استثمار المصالحة سياسياً ستنتهي مدّتها عند انتهاء مدة الاستثمار. لذلك، نحن نبني مصالحة ليس ليوم او يومين او سنة او سنتين، بل نبنيها لتخَطّي الماضي والذهاب الى المستقبل المفتوح، وليس لجيل واحد، إنما للأجيال القادمة». مضيفاً أنّ «المصالحة هذه ليست حلفاً سياسيّاً ولم تأتِ في إطار مصلحة آنية، بل هي ستستمر الى الابد. فعوائل الشهداء في قلوبنا، والشهداء سقطوا لأجل وحدة لبنان، وتهدف مصالحتنا اليوم للمحافظة على وحدة لبنان بأيّ ثمن».
الوزير السابق يوسف سعادة قال: «مصالحتنا اليوم هي نتيجة لقاءات وجلسات طويلة ونقاشات، وبالنهاية هناك اختلاف واضح في السياسة فلكلّ فريق موقفه المختلف في السياسة، وليس هدف اي فريق أخذ الآخر الى صفّه في السياسة، إنما بعد الجهود المطوّلة حان الوقت لطَي الصفحة الشمالية السوداء الأليمة. أمّا بالنسبة للتوقيت، فأهميته تكمن في انه ليس هناك اليوم اي استحقاقات، وهكذا تبدو الامور طبيعية وتَتكلّل بالنجاح نتيجة عمل وجهد «القوات» و«المردة» معاً لطَي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة».
حبشي: «تَنقية الذاكرة»
النائب البقاعي طوني حبشي، الذي بَدا متأثراً بمشهد المصالحة أسوة بباقي الحاضرين، وَصّف لـ«الجمهورية» المشهد «باللقاء المؤثّر والتاريخي»، متمنياً «من جميع الفرقاء أن يحذو حذوه».
وقال إنّ «القوات» و«المردة» «يعيشان حالة «تَنقية الذاكرة» وطَي صفحة الماضي الى الأبد للتفكير بالمستقبل»، مؤكداً أنّ «أحداً لا يستطيع إلغاء الآخر او إلغاء قناعاته او تفكيره السياسي»، لافتاً الى انّ «الاختلاف» مع المصالحة الوجدانية يكون له معنى، لأنّ الضوابط تواكبه، ويكون مجرداً من العدائية والحقد. ومن هناك تبرز الامكانية للبناء على ما هو أكثر من المصالحة كي نبني دولة ووطناً».
وأضاف: «مصالحتنا اليوم نتمناها لكل الاطراف المتصارعة، وننصحهم بالخطوات الجريئة لتنقية الذاكرة في لبنان، الأمر الذي لم يحصل حتى اليوم».
بكركي تفرح وتهلّل
صحيح انّ بكركي شهدت بعد عام 2011 لقاء الأقطاب المسيحيين الأربعة: الجميّل، عون، فرنجية وجعجع. وصحيح أنها حاولت بشتّى الطرق إتمام المصالحات الأصعب تحت قبّتها، لكنها باءَت «بنصف فشل» بعدما أدركت «نصف مصالحة» عندما حقّقت المصافحة الاولى بين الزعيمين الشماليين جعجع وفرنجية… إلّا أنها اليوم تفرح وتهلّل بلقاء الأخوة تحت قبّتها، وتقرع الأجراس فرحاً بـ«المصالحة الكاملة»، وتختمها بنور «الشمع الأحمر» وليس بناره.