كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
لا تشبع المصارف من المال العام. أكثر من 60% من أرباحها مصدرها الدين العام، ثم أعطاها مصرف لبنان القروض المدعومة، قبل أن يقدّم لها هدية أكبر في الهندسات المالية المتواصلة منذ 2016 إلى اليوم ما أكسبها أرباحاً سنوية طائلة. كل ذلك لا يكفي. فالمصارف تحاول اليوم شفط أكبر قدر ممكن من الأموال التي خصصها مجلس النواب لدعم القروض السكنية
في الجلسة التشريعية لمجلس النواب ما قبل الأخيرة، أقر قانون يمنح المؤسسة العامة للإسكان اعتمادات بقيمة 100 مليار ليرة لدعم القروض السكنية مؤقتاً، في انتظار إقرار الحكومة سياسة إسكانية تحدّد من خلالها آليات الدعم المستدامة. مبررات هذا الدعم ركّزت على أن شروط القرض السكني عبر المؤسسة العامة للإسكان لا تتيح استفادة الأثرياء كما هي عليه قروض مصرف لبنان المدعومة، بل تغطّي شريحة من الطبقة الفقيرة والمتوسطة في لبنان إذ يتوجب أن يكون الحدّ الأقصى للدخل العائلي خمسة ملايين ليرة وأن يكون الحد الأقصى للقرض 270 مليون ليرة، لكن كل هذا النقاش لم يعد قائماً اليوم بعدما تبيّن أن المصارف تريد شفط الدعم المخصص للفقراء.
حصل هذا الأمر يوم الثلاثاء الماضي. في ذلك الوقت كان يفترض أن يجتمع مجلس إدارة جمعية المصارف لإقرار إعادة العمل بالقروض السكنية المدعومة عبر المؤسسة العامة للإسكان بعد مفاوضات شاقة وقاسية خاضتها المؤسسة مع الجمعية من أجل التوصل إلى اتفاق على سعر فائدة القرض المدعوم. كان الاتفاق يقضي بأن تحصل المصارف على 15% من قيمة القرض مباشرة عند توقيع العقد. وهذه النسبة تمثّل الفائدة المترتبة على الحدّ الأقصى للقرض الذي تمنحه المؤسسة على فترة 25 سنة مع الأخذ في الاعتبار أن الفائدة المرجعية ناقصة 1% هي قاعدة الاحتساب. يومها كانت الفائدة المرجعية على القروض بالليرة هي 10.7%. وفق هذا الاتفاق كان يفترض أن يدفع طالب القرض فائدة تتراوح بين 5% و5.25%، أي أعلى بقليل من الفائدة التي كانت سائدة أيام كان الدعم وفيراً في السنوات الماضية.
وهذه الطريقة في الاحتساب كانت تمنح المصارف «هدية» تكمن في أنها ستحصل على جزء من أرباحها مباشرة من المؤسسة العامة للإسكان عند توقيع العقد، وستكون لها حصّة من الأرباح من الفائدة التي يدفعها طالب القرض.
لم يكن الأمر منصفاً للمستهلك ولا للمال العام، لكن حجم المشكلة وطبيعتها أفضت إلى إمساك المصارف بأفضلية في عملية التفاوض، خصوصاً في ظل وجود تعميم من مصرف يحدد سقفاً للإقراض بالليرة يوازي 25% من مجموع ودائعها. وبما أن المصارف كانت تسعى للفوز باتفاق يحدّد عملة الإقراض بالدولار بدلاً من الليرة نظراً لكون غالبية المصارف تجاوزت الحدود التي نص عليها تعميم مصرف لبنان، كان الاتفاق على التسليف بالليرة هو المقايضة التي جعلت عملية التفاوض تصبّ جزئياً لمصلحة المصارف.
المشكلة لم تكن تكمن في هذا الأمر، بل في أن المصارف لم تشبع. فيوم الثلاثاء المنتظر، قرّرت جمعية المصارف أن تردّ على الاتفاق الشفهي مع المؤسسة العامة للإسكان، بإصدار تعميم يقضي برفع أسعار الفائدة المرجعية إلى 11.50% على الليرة اللبنانية من دون أن تبلغ المؤسسة العامة للإسكان موافقتها أو أسباب الرفض للعرض المتفق عليه.
هذه الخطوة السلبية من الجمعية أعادت المفاوضات مع المؤسسة العامة للإسكان إلى نقطة الصفر. فقد تبيّن أن المصارف تريد تحقيق أكبر قدر من الأرباح التي يوفّرها المال العام. بحسب مصادر معنية، فإن القيادات المصرفية في لبنان تظن أنه ليس لدى المؤسسة أي خيار في هذا المجال إلا الخضوع لقراراتها، وهي لا تريد أن تقلص حجم أرباحها الناتج من هذا القرض الجديد ليرة واحدة، بل تريد الاستحواذ على ما تطاوله يداها.
في الواقع، إن الخيارات ليست ضيّقة كثيراً أمام المؤسسة العامة للإسكان، بل هناك «حلول أخرى» بحسب المصادر. لكن القرار سيأخذ الموقف نحو التعقيد لأن المصارف التي ترفض المشاركة في القرض الجديد بأسعار فوائد مقبولة، ستخسر فرصة تطوير محفظة تسليفاتها السوقية في هذه الأيام الصعبة، لا بل إن هذا الأمر ينطوي على تداعيات أخرى في محفظة المصارف، لأنها أصلاً متورطة في تسليف مصرف لبنان بنسب كبيرة، وهي أصلاً متورطة في تسليف الدولة بنسب كبيرة، وبالتالي فإن خسارة فرصة تطوير محفظة التسليفات السوقية سيرفع نسبة التركز في الدين السيادي ويرفع نسبة المخاطر عليها.