كتب محمد زبيب في صحيفة “الأخبار”:
للأسبوع الثاني على التوالي، امتنع مصرف لبنان عن الاكتتاب في سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي تصدرها وزارة المال لتمويل عجز الموازنة العامّة، لكنّه واصل إصدار شهادات الإيداع وإجراء الهندسات المالية بأسعار فائدة أعلى، من أجل إغراء المصارف لنقل المزيد من الودائع إليه، والسيطرة على السيولة والمحافظة على سعر ثابت لليرة. في ظلّ هذا الواقع، تخضع وزارة المال لضغوط شديدة لرفع الفائدة على الدين العامّ.
حتى سنوات قليلة، كانت الأمور تسير كما لو أنها «عجيبة» متواصلة، وكانت المسألة كلّها تقدّم على أنها مجرّد لعبة تقنية بسيطة: نفرض أسعار فائدة سخيّة، ونجذب سنوياً ودائع وتحويلات وديوناً خارجية إضافية بلا سقف، ثمّ نعمل على تحقيق عائد مرتفع جدّاً لإعادة تدوير فوائض رأس المال عبر زيادة الدين العامّ ودعم فوائد القروض وتحفيز الأسر على الاقتراض لزيادة استهلاكها وشراء مساكنها. إلّا أن النمو الاقتصادي الضعيف وانكماش الأسعار وبلوغ المضاربات العقارية أوجها، بما يفوق قدرة المداخيل المُحقّقة محلّياً على تحمّل كلفتها، وتباطؤ نمو الودائع وتراجع تسليفات القطاع الخاصّ وانخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر ونمو التحويلات وارتفاع العجز في الموازنة العامّة وتضخّم الدين العامّ وفوائده… كلّها عوامل كابحة، جعلت كلفة هذه الآلية تزداد يوماً بعد يوم وتتحوّل إلى مصدر تهديد بذاتها.
في عام 2015، قدّم البنك الدولي، في الدراسة التشخيصية المنهجية عن لبنان، صورة عن النتائج التي حقّقتها اللعبة النقدية. فالاقتراض بدلاً من فرض الضـرائب عاد بالنفع على الأكثر ثراءً: فلم تزد أعباؤهم الضريبية، بل على العكس، واسـتفادوا في الوقت نفسه من عائد حقيقي مرتفع نسبياً على رأس المال أعلى بكثير من معدّل نمو الناتج المحلّي الحقيقي، أي إن حصّة الدائنين (على رأسهم كبار المودعين) من مجمل الدخل ازدادت باطّراد وبلغت مستويات باتت هي نفسها تعوق تراكم رأس المال ونمو الدخل وتمويل الاستهلاك.
يستند خبراء البنك الدولي إلى متباينة توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، إذ توصّل في بحثه التاريخي إلى شرح المأزق الكبير الذي ينتج عندما يكون r، وهو متوسّط العائد الحقيقي السنوي على رأس المال، بما يتضمّن الأرباح والتوزيعات والفائدة والريع، أعلى من g، وهو معدّل النمو الحقيقي في الاقتصاد، أي الزيادة السنوية في الدخل أو الناتج. فعندما ينمو رأس المال أسرع من الاقتصاد، نكون أمام مشكلة لا فخر فيها، فكيف في حالة لبنان، حيث ساعدت آلية الدين العامّ بمراكمة رأس المال المالي الوهمي على حساب رأس المال المُنتج الحقيقي؟
عمد خبراء البنك إلى قياس التفاوت بين نمو دخل الجميع ونمو دخل رأس المال الموظّف في الدين الحكومي، وتوصّلوا إلى أنه في الفترة بين 1993 و2013 كان r، وهو متوسّط سعر الفائدة الحقيقي على الدين العامّ بعد حسم الضريبة، يساوي 7.1%، في حين أن g، وهو متوسّط نمو مجمل الناتج المحلّي الحقيقي، يساوي 4.6%، أي إن الفجوة بين r و g بلغت 2.5%، وهي فجوة كبيرة على فترة زمنية طويلة، وتساهم بتقليص الدخل المُتاح لاستهلاك الأسر والاستثمار في الاقتصاد الحقيقي.
عمدنا، بمساعدة خبراء، إلى تحديث النتيجة، عبر استخدام المنهجية نفسها المُعتمدة من قبل خبراء البنك الدولي، وتبيّن أن هذه الفجوة لا تزال مرتفعة جدّاً، على الرغم من الأزمة التي نشأت بعد عام 2011 حتّى اليوم. فبين عام 2012 وآب/ أغسطس 2018 بلغت الفجوة بين r و g نحو 2.3%، علماً أن استثناء الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام من الحساب يرفع الفجوة إلى 2.6%، وهي بلغت 9.6% في عام 2015، في ظلّ انكماش الأسعار بنسبة 3.7%.
في هذه الفترة، تدخّل البنك المركزي بقوّة لدعم ارتفاع الأسعار، ودعم فوائد القروض السكنية لمنع انخفاض أسعار العقارات، وعمد لاحقاً إلى دعم الفوائد على الودائع للمحافظة على موجودات عالية بالعملات الأجنبية. وقد ظهرت نتائج هذا التدخّل في الأشهر الماضية من هذا العام، إذ انخفض معدّل النمو الاقتصادي الحقيقي إلى 1%، وارتفع مؤشر الأسعار إلى 5%. وفي ظلّ زيادة الضريبة على الفوائد من 5% إلى 7%، تقلّصت الفجوة بين العائد الحقيقي من التوظيف في سندات الخزينة ونمو مجمل الناتج المحلّي، وأصبحا متوازيين، وهذا يعدّ أمراً صحيّاً للاقتصاد والمالية العامّة وإعادة توزيع الدخل، إلّا أن مشكلته أنه لا يخدم «النموذج النقدي» القائم على الاستدانة وتسديد فوائد سخيّة والسماح لرأس المال بتحقيق عائد حقيقي أعلى دائماً من العائد الموزّع على كلّ المجتمع.
لقد سجّل البنك المركزي في السنوات الماضية كلفة تمويل هذه الفجوة كديون مترتبة في ميزانيته لمصلحة المصارف، فعمد إلى امتصاص الودائع بكلفة أعلى بكثير من العائد على سندات الخزينة، وعمد في المقابل إلى الاكتتاب مباشرة في إصدارات وزارة المال لتمويل العجز في الموازنة والمحافظة على أسعار اسمية للفائدة لا تتطابق مع الواقع، إلّا أن هذه الآلية رتّبت خسائر ضخمة، وهو يخطّط الآن لنقلها مجدّداً من ميزانيته إلى الموازنة العامّة عبر الضغط من أجل رفع الفائدة على سندات دين الحكومة بما يكفي لإعادة الفجوة بين العائد الحقيقي على هذه السندات ونمو الاقتصاد، وجعله الحافز شبه الوحيد لجذب المزيد من التدفّقات المالية الخارجية.
ما يجدر الانتباه له، أن البنك المركزي لا يضغط لرفع كلفة الدين العام فقط، بل يضغط أيضاً لتمويلها من زيادة الضريبة على الاستهلاك، بهدف امتصاص السيولة التي ستنجم عن زيادة الدين العام. هل تذكرون دعوة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى زيادة 5 آلاف ليرة كضريبة على كلّ تنكة بنزين؟