كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
لا جدال في ان المصالحة بين تيار المردة والقوات اللبنانية اكثر من مهمة. اكثر من ضرورية. اكثر من حتمية وإن متأخرة. اكثر من صفح يقابله اعتراف بين حزبيين مارونيين. لكن ايضاً – ربما اكثر – بين شخصين لم يكن احدهما يعرف الآخر في ذلك اليوم.
ليس في تاريخ المارونية السياسية التقليدية مصالحات مقدار العداوات. فيها من التحالفات والتقلبات ما فيها من التواطؤ عقوداً طويلة. لم تكن دموية، ولولا الحرب ربما لم تصر في صلب العدوات.
لا يروي تاريخ المارونية السياسية ان اميل اده وبشارة الخوري تصالحا ثم من بعدهما ابناؤهما، وكميل شمعون وحميد فرنجيه تصالحا بعد عامي 1952 و1957، وشمعون وفؤاد شهاب تصالحا، وريمون اده وشهاب تصالحا بين عامي 1959 و1973، وبيار الجميّل واده تصالحا في عقدي الستينات والسبعينات، واده وسليمان فرنجيه الجد بعد عام 1971. معظم هؤلاء حمل الخصومة معه الى الموت حتى، كأنه لم يتشفَّ ابداً. عندما يأتي احدهما على ذكر الآخر يواصل تصفية الحساب كأنه لم يمت بعد.
يروي تاريخ المارونية السياسية ان فرنجيه الجد لم يقبل باستقبال مسؤول في القوات اللبنانية هو الياس حبيقة عام 1985 الا لأن بشير الجمّيل اغتيل قبل ثلاث سنوات وابنته مايا اغتيلت قبل اربع سنوات، مستجيباً رغبة دمشق بعدما اضحى حبيقة في الخيار السوري. لم يستقبل كذلك رئيس حزب الكتائب جورج سعادة عام 1986 الا لأن مؤسس الحزب بيار الجميّل توفي قبل سنتين. لم يتصالح بشير الجميّل وداني شمعون ابداً بعد 7 تموز 1980.
بالتأكيد، على نحو مماثل، لم يتصالح حبيقة وسمير جعجع بعد عام 1986، بل غاليا في انتقام غير مسبوق وصلت اصابعه الى زحلة ولم يكتفِ بساحة نزاعاتهما في المنطقة المسيحية حينذاك، بما في ذلك وقوف الثاني وراء القضبان فتشبّثا بالعداء والتشفّي، الى ان تربص الاغتيال بالاول. ليس سرّاً – لمَن يتذكر – انهما اقسما على الانجيل امام المدبر الرسولي المطران ابراهيم الحلو بأن لا يقتتلا في خلافهما على الاتفاق الثلاثي عام 1985. لكنهما فعلا.
يذكر كثيرون ما بين عامي 1991 و2000 اقام في فرنسا، ومنذ عام 1996 في باريس بالذات، ثلاثة زعماء مسيحيين متشابهين في الاقامة الجبرية، هم امين الجميّل وميشال عون وريمون اده. لم يجتمعوا مرة طوال هذه السنوات ما لم تكن ثمة مصادفة في كنيسة سيدة لبنان هناك. لم يشأ احدهم مصالحة الآخر او الاجتماع به رغم مقاطعتهم انتخابات 1992.
بعد عودة عون من فرنسا عام 2005 ذهب الى جعجع في السجن للتضامن معه، وبينهما ذلك الكمّ الهائل المكلف من الاقتتال. لكن من دون ان يتصالحا طوال السنوات الـ11 التالية. بعد اطلاق جعجع كان امين الجميّل في مقدم مهنئيه باستعادته حريته عام 2005 في المطار، في طريقه الى الخارج، من غير ان ينسى ان جعجع وراء تهديده وارغامه على المنفى الاختياري في باريس على اثر انتهاء ولايته الرئاسية عام 1988. مع ذلك لم يفكرا في المصالحة المشهودة.
كل رئيس جديد للجمهورية يصبح فور انتخابه خصماً لدوداً لسلفه، ويرفع في وجهه جدار العداوة. قبلاً كانت القاعدة التي توارثها الشيخ بشارة وشمعون وشهاب، ثم انتقلت عدواها بعد الحرب الى الياس هراوي خلفاً لامين الجميّل، واميل لحود خلفاً لهراوي، وميشال سليمان خلفاً للحود، وعون خلفاً لسليمان. ذلك ايضاً في صلب اعراف الموارنة الجدد بعد القدامى.
لا تقل «مصالحة بكركي» بين تيار المردة والقوات اللبنانية (14 تشرين الثاني) اهمية عن «مصالحة معراب» بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية (18 كانون الثاني 2016). في كلتيهما اقترن العداء بشخصين اكثر منه بحزبين. لكن بفارق جوهري ان المصالحة الاولى نظّمت اتفاقاً سياسياً بُنيت عليه مرحلة سياسية لاحقة عامودها الفقري انتخاب عون رئيساً للجمهورية، مستندة بدورها الى «اعلان النيات» بينهما (2 حزيران 2015 في الرابية)، فيما المصالحة الثانية بين شخصين فحسب، بلا وثيقة سياسية. كلاهما لم يعرف الآخر قبل اربعة عقود عندما ارتكبت مجزرة اهدن. احدهما طفل في حضن جده، والآخر مقاتل مسؤول عن فصيل بشري في القوات المستمدة الإمرة آنذاك من حزب الكتائب.
لعل المفارقة المهمة انهما ورثا قميصاً ملطخاً بالدم وُضع في الخزانة، من غير ان يكونا معنيين بما حدث. اصل المشكلة بين طوني فرنجيه وبشير الجميّل تقاسم النفوذ في الشمال المسيحي بين العائلة والحزب، من دون ان تكون ثمة منافسة على رئاسة الجمهورية، شأن كل العداوات المارونية، السابقة واللاحقة، غير الملطخة التي دارت من حولها.
ليس الامر كذلك في مسار اقتتال عون وجعجع ما بين عامي 1989 و1990. عرف احدهما الآخر تماماً. منذ عام 1988 كانا على طرفي نقيض الى ان انفجر نزاعهما الدموي السنة التالية. لا وجود للتيار الوطني الحر آنذاك، بل الجيش بقيادة عون في واجهة الصدام، ما جرجر الى الامس القريب ذيولاً لم تنته بين المؤسسة العسكرية وحزب القوات اللبنانية. هكذا الاقتتال الماروني التاريخي بين اشخاص لا يقربون المصالحة.
لوهلة عنت «مصالحة معراب» تقاطع مصالح سياسية بين صانعيها، فيما «مصالحة بكركي» لم تشأ ان تقول سوى انها تطوي ماضياً من الاقتتال والثأر المضمر. مع ذلك ثمة سؤال ضروري ينجم عن توقيت المصالحة الحالية يقفز فوق «النكاية». شأن ما عُدت «مصالحة معراب» نكاية بترشيح الرئيس سعد الحريري فرنجيه لرئاسة الجمهورية، فاستدعت للفور المصالحة تلك، لا تخلو «مصالحة بكركي» من وصفها بـ«نكاية» مماثلة جاءت – للمصادفة – في توقيت قد يكون بريئاً عند احد الفريقين، او متعمّداً عند الفريق الآخر هو تشرين الثاني. في 5 من هذا الشهر 2015 رشح الحريري فرنجيه متجاهلاً جعجع حليفه المرشح للرئاسة منذ اكثر من سنة. في 14 تشرين الثاني 2018 يتصالح فرنجيه وجعجع بدلالة الرد على خصم مشترك، لكن مختلف عن 2015: بين فرنجيه وجبران باسيل قطيعة كاملة، وبين جعجع وباسيل نصف قطيعة. بين رئيس الجمهورية وفرنجيه انقطاع كامل، وبينه وجعجع شبه انقطاع.
ثمة سؤال آخر ضروري: ايهما بين فرنجيه وجعجع يحتاج اكثر الى «مصالحة بكركي»؟