كتب عدلي صادق في صحيفة “العرب” اللندنية:
حيال ما يراه اللبنانيون الموارنة، من خطر يتهدد حضورهم السياسي الوازن في المشهد اللبناني، كانت هناك في مناخات الطائفة، الكثير من العوامل التي تدفع السياسيين سمير جعجع وسلمان فرنجية إلى التلاقي في مصالحة تاريخية في بيت المرجعية الدينية المارونية في قرية بكركي، قضاء جونية.
فما بين الرجلين عقود من العداء، بل إن الثاني، سليمان فرنجية، كان طفلا يوم أن قُتل أبوه، طوني، على يد ميليشيا القوات اللبنانية التابعة لحزب الكتائب آنذاك في العام 1978، وقد شب الطفل على فكرة الثأر وأن جعجع كان على رأس المجموعة التي قتلت أباه وأمه وشقيقته جيهان. وكانت السياسة هي التي دفعت مجموعة القوات اللبنانية التي هاجمت بيت آل فرنجية، إلى أن تفعل ما فعلت وتقترف الجريمة. والسياسة نفسها هي التي أوجبت التلاقي والمصالحة بعد 40 عاما.
في المرة الأولى، كانت القوات اللبنانية تستهدف آل فرنجية، بسبب تحالف الرئيس سليمان، جد سليمان الحالي، مع نظام الأسد. وفي المرة الثانية عادت السياسة لكي تجمع بين جعجع وآل فرنجية، على قاعدة المصلحة المارونية في المعادلة الداخلية التي تتعزز فيها قوة حزب الله ويسانده في هذا السياق التيار الوطني الحر الماروني.
تحسس البطريرك الماروني بشارة الراعي، خطر انقلاب موازين القوة في المعادلة السياسية اللبنانية لصالح المكون الإسلامي الشيعي. وفي خلفيات ذهن سليمان فرنجية، أن تحالفه مع النظام السوري، وهو تحالف موروث أيضا؛ لا يبرر الاستنكاف عن الإسهام في تعزيز موقف الطائفة، عن طريق وحدتها، في مواجهة صعود دور المكون الشيعي الذي يدعمه نظام الأسد، إذ لم تعد هناك فائدة من استمرار العداء بين القوات اللبنانية وتيار المردة طالما أن الكل الماروني سيكون خاسراً.
ولمناسبة التصالح تراجعت لدى سليمان فرنجية، الفقرة التي تؤكد في الرواية أن قاتل أبيه هو سمير جعجع، لصالح فقرة أخرى يؤكدها جعجع، وهي أنه قد أصيب في المعركة مع المردة قبل أن يصل إلى موضع وجود القتيل طوني فرنجية وأسرته. فضلا عن ذلك كان على فرنجية، أن يأخذ في الحسبان أن جعجع قضى في السجن 11 عاما أثناء سيطرة القوات السورية على لبنان، بعد اتهامه بتفجير كنيسة النجاة في كسروان، وقتل رئيس الوزراء الأسبق رشيد كرامي وداني شمعون وقد أفرج عنه بعد خروج القوات السورية من لبنان عام 2005.
كان جعجع قد خرج من عباءة حزب الكتائب، وجعل القوات اللبنانية التابعة له، حزبا بزعامته. والرجل في التوجه العام لتجربته، يمقت العائلة الحزبية التي شملت الكتائب والمردة والوطنيين الأحرار، وهو يتحدر من أسرة متدينة مسيحيا حتى الأصولية، واختار طريق الصراع عندما ترك دراسة الطب في مراحلها الأخيرة، ودراسة أخرى بعدها في الجامعة اللبنانية، وخاض حربا شرسة ضد الوجود غير اللبناني في البلاد، ولأن دوره اتسم بالعنف فقد أوصلته الدروب إلى السجن الذي عاش فيه يقرأ ويتأمل، ويخرج بنتيجة أن الأصولية طريق للهلاك السياسي.
أما سليمان فرنجية فقد كبر على فكرة الثأر وظل يمنّي النفس أن تحالفه مع النظام السوري، يمكن أن يساعده على رد الاعتبار بعد الثأر، وهذا أمر لم تساعد عليه طبائع السياسة ولا تغيرات المواقف فيها. اليوم ترعى البطريركية المارونية مصالحات بين الزعماء الذين تصارعوا في فترات الحرب، وجعلوا من التمايز في المواقف حروبا في داخل الطائفة، تخللتها أعمال قتل مروعة واغتيالات. لكن المستجدات السياسية تفرض عليهم طي الصفحة السوداء والتوجه إلى وحدة الموقف الذي يحفظ للطائفة بعض دورها الحاسم في عهود سابقة.
بشارة الراعي ألقى كلمة مقتضبة في جلسة المصالحة، “اليوم، مع القطبين الحاضريْن، نؤكد على المصالحة حتى نواصل الطريق معا، ونسير إلى الأمام. فهذا لقاء تاريخي عظيم”. كانت الأحداث في العقدين الماضييْن، تفعل فعلها لتجزئة المُجزّأ وتفتيت المفتت في لبنان، والنتيجة كانت لصالح الحزب المسلح الموصول بإيران.
وقد بدا أن الكل الماروني قد استوعب الدروس، بدءا بالدرس الذي يعلمهم أن إسرائيل لن تساعدهم على حماية دورهم في البلاد، وأن النظام السوري لن يحمي دورهم، مرورا بأن فرنسا ليست ضامنة لاستمرار دورهم، وليس للإنكليز ما يمنحونه للدروز مثلما كان الأمر في القرن 19. ففي الوطن ومن الوطن، ينشأ الدور وتتحدد خياراته السياسية.
عدلي صادق – كاتب وسياسي فلسطيني