مهما يكثر المنظرون حول مشاكل لبنان المتعددة، سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً، يبقى الأساس ومن دون منازع في غياب رجالات الدولة الحقيقيين.
هكذا يقبع لبنان منذ عقود في انتظار الخارج بحثاً عن تسويات ينفذها من هم في الداخل، وحتى عندما تأتي التسويات الخارجية ينفذونها بأسوأ طريقة ممكنة بحثاً عن مصالحهم الخاصة.
فلنبدأ من الشكل، وفضيحة استعراض عيد الاستقلال، بحيث أن عدم التخطيط الصحيح كلّف اللبنانيين سجنهم في مرآب كبير. بربكم كيف يمكن أن نبني دولة ونضع خططاً خمسية وعشرية ولعشرين سنة مقبلة إذا كان بعض المسؤولين عاجزين عن اتخاذ قرارات صحيحة في كيفية إتمام عرض عسكري رمزي؟!
أما في المضمون العميق لكل ما يجري في لبنان فنبدأ من تشكيل الحكومة الحالية، كما كل الحكومات المتعاقبة منذ “الطائف” وحتى اليوم، لنتوقف عند واقع مرّ يتمثل في تغييب الدستور وغياب رجالات الدولة الحقيقيين الذين يلتزمون بالدستور ويمارسون صلاحياتهم بموجبه ويقومون بالمطلوب منهم، طوراً تحت شعار الميثاقية والتوافقية، وطوراً آخر استجابة لضغوط محلية أو خارجية، وفي كل الأحوال بسبب عجزهم عن أن يكونوا رجال دولة ببساطة!
تخيلوا كيف أن أي تسوية سياسية في لبنان لا تصمد، والسبب بكل بساطة أن رجال السياسة في لبنان، والمفترض أن يكونوا رجال دولة، لا يلتزمون بكلامهم ولا يفون بالتزاماتهم على كل المستويات، بحيث بات النكث بالعهود والالتزامات وحتى التواقيع أمراً أكثر من عادي في غياب قانون يحاسب وشعب يسائل!
والأسوأ من ذلك أن السياسة في وطننا تقوم على منطق “النكايات” في غياب مصطلح “المصلحة العامة” فعلياً، فلا مصالح في لبنان غير المصالح الخاصة، ولا سياسة خارج إطار “النكايات” وتسجيل النقاط على حساب المصلحة العامة!
وفي الاقتصاد والمال، وفي غياب رجالات دولة فعليين، يعيث الفاسدون خراباً بمقدرات الوطن، وتصبح “محاربة الفساد” لازمة في أغنية مملّة يستعملونها لتخدير الشعب. جميعهم يريدون محاربة الفساد لكنهم لا يعثرون على فاسد واحد! تقع كوارث على كل الصعد فلا نجد مسؤولاً واحدا تتم محاسبته أو يحاسب نفسه على الأقل فيعتذر ويستقيل!
كنت ظننت للحظة أن ثمة ذهنيات قديمة تحكمنا، لكنني تذكرت أن الذهنيات القديمة، على بشاعتها، إنما تحفظ في جوانب منها بعض الأصالة حين كان كل مسؤول يلتزم بكلمته، وحين كان المسؤولون يخجلون حين يتورطون في “صفقات” ما، وحين كان في لبنان رجالات من طراز نادر أكتفي بذكر ثلاثة منهم: فؤاد شهاب وكميل شمعون وشارك مالك، وحين كانت كل الطوائف تعجّ بأمثالهم، فتأكدت أن ليس الذهنيات القديمة هي التي تحكمنا، بل ذهنية التجار الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية والمادية، وإن كان التعميم لا يجوز حتماً لكن الواقع ينطبق على الكثرية الساحقة من مسؤولينا.
هنا تكمن لبّ المشكلة، ويقيناً لو كان لدينا رجالات دولة بكل معنى الكلمة، لكانوا جلسوا معاً وأصلحوا ما يجب إصلاحه في وطن يزخر بالإمكانات والطاقات الفردية، ولكانوا التزموا بالدستور أولاً، ولكانوا وقفوا كالرمح في وجه كل من يحاول أن يفرض إرادته على القرار الوطني، ولكانوا منعوا الميليشيات من استباحة البلاد.
وفي انتظار رجالات الدولة التي لا تبرر عجزها بالعوامل الخارجية والمعادلات الإقليمية، سيبقى لبنان ساحة مستباحة لصراعات القوى الإقليمية و”بقرة حلوب” لأصحاب الأطماع والجشع داخلياً، وسيبقى الحلم بدولة حقيقية قوية معلقاً حتى إشعار آخر!