كتب حسن عليق في “الاخبار”:
لخمسة أشهر، أبقيت في سجون الاستخبارات التركية متهمةٌ بتنفيذ الهجوم على القنصلية الأميركية. في رسالة بعثت بها من سجنها، تروي حكاية تعذيبها التي تبنّتها منظمات حقوقية لتسائل الحكومة اللبنانية! فتوقيف المناضلة التركية حصل في لبنان. وبقرار من الرئيس سعد الحريري، تم تسليمها إلى الاستخبارات التركية، خلافاً للقانون
في الأيام القليلة الماضية، وصلت إلى السلطات اللبنانية (تحديداً وزارتي الخارجية والعدل)، مراسلات من جمعيات حقوقية تسائل الحكومة عن الأسباب التي دفعتها إلى تسليم المدعوة آيتِن أوزتورك إلى السلطات التركية، منتصف آذار الماضي. وسبب المساءلة أن أوزتورك تعرّضت لتعذيب شديد من قبل الاستخبارات التركية، على مدى أكثر من 5 أشهر، قبل أن يتم تسليمها إلى الشرطة التركية. التعذيب لم تزعم وقوعه مؤسسات حقوقية عديدة وحسب، إذ أكدته لـ«الأخبار» مصادر استخبارية ودبلوماسية على صلة بالقضية، فضلاً عن أوزتورك نفسها في رسالة بعثت بها من سجنها. وتتهم السلطات التركية والأميركية آيتِن بالمشاركة في هجوم مسلّح على القنصلية الأميركية في اسطنبول يوم 10 آب 2015، وبأنها عضو في «جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري»، اليسارية.
توقيف أوزتورك في بيروت، يوم 8 آذار 2018، حصل نتيجة خطأ أوقعت نفسها فيه. فهي قصدت مطار رفيق الحريري الدولي، حاملة جواز سفر بريطانياً. تقدّمت من موظف الأمن العام الذي تفحّص جواز السفر بصورة روتينية، فتبيّن أنه غير مزوّر. لكن التدقيق بالصورة الشخصية أظهر أنها تعود إلى امرأة لا تشبه أوزتورك تماماً. ورغم أن صاحبة «الباسبور» من مواليد عام 1973، وآيتن من مواليد العام 1974، لكن يبدو أن الصورة المستخدمة قديمة، إذ تبدو حاملة جواز السفر أكبر سناً من صاحبة الصورة. تم توقيفها في المطار، وأحيلت على المديرية العامة للأمن العام. هناك، تحدّثت بكلمات عربية «مكسّرة»، قائلة إنها تتحدّث اللغة الكردية. أتى المحققون بشخص يترجم كلامها، فقالت إنها تركية، وإنها دخلت إلى لبنان من سوريا، برّاً، بواسطة جواز سفرها التركي. وزعمت أن اسمها سِلدا أوزجِليك. بعد التدقيق في سجلات العبور في المصنع، ظهر الاسم الذي ذكرته الموقوفة. لم يُعثر على جواز سفرها التركي معها، وقالت إنها تخلصت منه على الطريق، لأنه لا يحمل تأشيرة دخول «أوروبية». فهي تريد الوصول إلى اليونان، وخشيت عثور الأمن العام في لبنان أو أثينا على جواز سفرها التركي في حوزتها، وبالتالي، اكتشاف أن جواز السفر البريطاني لا يعود إليها. حاول المحققون معرفة مصدر جواز السفر البريطاني، فتمسّكت بإجابة وحيدة: «عثرتُ عليه في دمشق، وتحديداً في منطقة المزة». بطبيعة الحال، لم يقتنع المحققون. اتصلت المديرية العامة للأمن العام بالسفارة التركية، وزوّدتها باسم الموقوفة. لكن موظفي السفارة رفضوا التعاون مع الأمن العام، بسبب غياب ما يثبت أن الموقوفة تركية.
الاستخبارات التركية في بيروت بعثت بالاسم إلى أنقرة، ببريدها الخاص، لكن غير المستعجل. وهنا بدأت تتكشّف القضية. الاسم الذي استخدمه الموقوفة في بيروت يعود إلى امرأة تركية موقوفة منذ العاشر من آب 2015 (يوم الهجوم ضد القنصلية الأميركية في اسطنبول)، بتهمة المشاركة في العملية. جرى التعامل مع القضية بصفتها شديدة الاهمية، إلى حدّ أن رئيس الاستخبارات التركية، حقّان فيدان، اتصل هاتفياً بالرئيس سعد الحريري، قائلاً له إن لدى المديرية العامة للأمن العام موقوفة مهمة، لها صلة بهجوم مسلّح على القنصلية الأميركية في اسطنبول قبل سنوات، وإنه يريد من الحريري شخصياً ضمان تسليمها إلى تركيا في أسرع وقت ممكن. وبعث فيدان برجاله إلى بيروت، للتدقيق في هوية الموقوفة. رجّح الأتراك أن تكون آيتن أوزتورك قد وقعت في قبضة الامن العام اللبناني، وصحّ ترجيحهم. فعندما واجه المحققون اللبنانيون الموقوفة باسمها الحقيقي، لم تنفه. دمعت عيناها، وفاجأتهم بأنها تتحدّث اللغة العربية بطلاقة. قالت إنها كانت تعيش في سوريا، لأن السلطات التركية تلاحقها، «كما لاحقت سابقاً أبي وشقيقيّ وقتلَتْهم وأحرقت أحدهم». لكنها بقيت مصرّة على رفض تقديم أي معلومة عن نشاطها.
سريعاً، اتصل الحريري بالمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، طالباً تسليم أوزتورك إلى تركيا. ردّ إبراهيم بأن هذا الأمر غير ممكن من دون طلب استرداد قانوني، فسارع الحريري إلى مخابرة المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود. بحث الاخير عن فتوى، فقرر اللجوء إلى خيار الترحيل. لكن، في العادة، يُرَحَّل الموقوف إلى الوجهة التي أتى منها. أي، كان ينبغي ترحيل آيتن أوزتورك إلى سوريا. القانون هنا، وطرق العمل المعتادة، لا قيمة لها. المهم أن صديق الحريري، حقّان فيدان، طلب منه «خدمة»، وما على الدولة إلا أن تستجيب. وهذه «الخدمة» من الأهمية بمكان إلى حدّ إرسال طائرة خاصة، في اليوم نفسه، من تركيا إلى بيروت، لنقل آيتن أوزتورك. سُلِّمت الاخيرة، بقرار من المدعي العام التمييزي، إلى السلطات التركية التي تتهمها بالانتماء إلى «جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري». بقيت لخمسة أشهر مجهولة مكان التوقيف، إلى أن سلمتها الاستخبارات التركية إلى الشرطة.
فريق الرئيس سعد الحريري يبرر التسليم بأنه سبق لصداقته مع فيدان أن أدّت إلى تسليم اللبناني محمد الحجار، المشتبه في مشاركته بمحاولة اغتيال القيادي في حركة حماس، في مدينة صيدا يوم 13 كانون الثاني 2018. فالحجار فرّ إلى اسطنبول بعد تنفيذ العملية. وبعدما تبيّن لفرع المعلومات وجوده في المدينة التركية، اتصل الحريري بفيدان، ما أدى إلى استرداد المشتبه فيه بعد أيام قليلة. لكن، ثمة فارقان أساسيان؛ الاول أن السلطات اللبنانية أرفقت اتصال الحريري بطلب استرداد رسمي، فيما لم يكلّف الجانب التركي نفسه عناء «التعامل بالمثل». أما الثاني، والأهم، فهو أن الجانب اللبناني طبّق القانون في قضية الحجار، محترماً أصول التوقيف ومدته وحقوق الموقوف. اما الجانب التركي، فلم يقدّم أي ضمانة بشأن الموقوفة، فضلاً عن كونه لم يُبرز إثباتاً على أنها فعلاً آيتن أوزتورك!
يُضاف إلى ما تقدّم أن تركيا، وباستثناء عدد محدود من القضايا كملف الحجار، لا تتعاون مع الأجهزة الأمنية اللبنانية بالصورة الطبيعية المتوقعة، وخاصة إذا كان هذا التعاون مطلوباً في ملفات الجماعات الإرهابية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقدّم الجانب اللبناني من الأجهزة التركية بأكثر من خمسة طلبات تعاون بشأن المطلوب اللبناني رضوان خرّوب، أحد المشتبه في مشاركتهم بالإعداد للتفجيرين الانتحاريين اللذين وقعا في ضهر البيدر والطيونة، عام 2014 (رأت الاجهزة الأمنية حينذاك أن أحد التفجيرين كان يستهدف اللواء عباس ابراهيم). ورغم تكرر الطلبات الرسمية، فإن الأجهزة التركية لم تبدِ أي تعاون. وفيما كان متوقعاً منها تسليم المطلوب إلى لبنان، أفرجت عنه من «معسكر اعتقال»، وصار حرّاً في تركيا! أما آيتن أوزتورك، وهي ـــ بحسب الاتهامات التركية ـــ تنتمي إلى واحدة من آخر مجموعات العمل المسلّح المباشر ضد الهيمنة الأميركية في العالم، ففي السجن. ورغم عجز الاستخبارات التركية عن انتزاع اعتراف منها، إلا أن احداً لا يتوقّع عودتها إلى الحرية قريباً.