IMLebanon

لا استقلال بلا استقلالية

كتب عماد مرمل في صحيفة “الجمهورية”:

صار عمر الاستقلال اللبناني 75 عاماً. هو عمر اختمار الحكمة وحصاد “قمح” الخبرة، لكنّ استقلالنا لا يزال طري العود، وضعيف المناعة، على رغم كل تلك السنين.

خلف احتفالات الاستقلال وصخبها، يختبئ شعور بالمرارة لدى غالبية اللبنانيين. يكاد شكل “العيد” يقتصر على بعض المظاهر الرسمية والبروتوكولية، وهو بالنسبة الى شريحة من المواطنين (كالموظفين والطلاب…) ليس أكثر من مناسبة للعطلة، يمكن أن يُستفاد منها لإتمام بعض الواجبات العائلية أو للقيام بأنشطة ترفيهية.

قد يكون عيد الاستقلال هو الحلقة الأضعف بين الأعياد المعتمدة في لبنان، خصوصاً تلك التي تحييها الطوائف المتعددة. التفاعل معه أقرب الى “الواجب الاجتماعي” منه الى “الشغف الوطني”.

تشعر أنّ هناك سلكاً مقطوعاً أو “وصلة” مفقودة بين عيد الاستقلال والناس. تبدو العلاقة “باردة” وناقصة، وكأنها لم تكتمل أو لم تَستوِ بعد. ليس أمراً بسيطاً، أنّ كثيرين لا يجيدون النشيد الوطني ولا يعرفون قصة الاستقلال ورجالاته. وليس أمراً بسيطاً أنّ 22 تشرين الثاني من كل عام بات مرادفاً فقط لإقفال الطرق وللعرض العسكري في حضور أهل الدولة، أمّا أهل الوطن فيقيمون على ضفاف المناسبة ورصيفها.

هذا الفتور في إحياء ذكرى الاستقلال، ربما يكون جزءاً من أزمة الثقة العميقة بين المواطن ودولته الهشّة. صحيح أنّ معظم الارض اللبنانية تحررت من الاحتلال، لكنّ الصحيح ايضاً أنّ الارادة الوطنية لم تُستعد بكاملها بعد، والقرار السياسي لم يَتلبنَن كلياً، و”الخارج” لم يغادر الغرف المغلقة بما فيها غرف النوم، والسفراء لم يعودوا الى أحجامهم الطبيعية…

لا يصدق اللبنانيون أنّ الاستقلال حقيقي وناجز، بينما هم يرون الدول تتدخل على الملأ في شؤون بلدهم المشرّع الابواب، فترسم مصيره، وتتحكّم بمساره، وتؤثر في استحقاقاته، وتساهم في تكوين سلطته، وتمنحه الاستقرار او تحجبه عنه.

لا يصدق اللبنانيون أنّ الاستقلال حقيقي وناجز، فيما الدين العام قاربَ الـ100 مليار دولار، والصناعة والزراعة مُهمّشتان، والسياحة “ارتجالية”، والهجرة كثيفة، مع ما يعنيه ذلك كله من انكشاف اقتصادي – مالي، يضعف مقوّمات الصمود والقدرة على المجاهرة بـ”لا” أو “نعم” في اللحظة المناسبة، خصوصاً أنه ليس خافياً انّ الاستقلال المحَصّن أصبح في هذا العصر يرتبط عضوياً بالاقتصاد القوي.

لا يصدق اللبنانيون انّ الاستقلال حقيقي وناجز، بينما قادته يتنازعون على “بديهيات” لا تستقيم من دونها مفاهيم الوطن والدولة والسيادة والكرامة، إذ هم قبل “اتفاق الطائف” وبعده يختلفون حول تحديد هوية الصديق والعدو، وتصنيف المخاطر، وتعريف المصلحة العليا، وجدوى المقاومة…

لا يصدق اللبنانيون أنّ الاستقلال حقيقي وناجز، في وقت يستمر الداخل ممزقاً وموزّع الولاءات الخارجية، بفِعل الافتقار الى هوية وطنية واحدة وانتماء مشترك، واحتدام النزاعات الطائفية والمذهبية والهواجس الوجودية، ما يدفع المكونات الداخلية الى استجرار “الطاقة” من خلف الحدود لتعزّز عناصر قوتها في مواجهة “الآخر”، ظنّاً منها أنها بذلك تحمي نفوذها ومستقبلها.

لا يصدق اللبنانيون انّ الاستقلال حقيقي وناجز، فيما نظامهم السياسي المترهّل يعجز عن انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومات وإجراء الانتخابات النيابية، وفق الروزنامة الدستورية المفترضة.

لا يصدق اللبنانيون أنّ الاستقلال حقيقي وناجز، في وقت تحمل تسوياتهم التاريخية أسماء مدن خارجية، من قبيل “اتفاق القاهرة” و”اتفاق الطائف” و”اتفاق الدوحة” وما شابه…

لا يصدق اللبنانيون انّ الاستقلال حقيقي وناجز، وسط تفشّي الفساد الذي يعني انّ نظرية التشاطر والمساومة تبقى هي الحاكمة، من الادارة الى السياسة.

لا يصدق اللبنانيون انّ الاستقلال حقيقي وناجز، لأنّ دولة تخفق في تأمين الكهرباء والمياه وإزالة النفايات وتخفيف التلوث ومعالجة أزمة السير ومنع سد مجرور، هي بالتأكيد أضعف من أن تحمي حريتها وسيادتها.

لا يصدق اللبنانيون انّ الاستقلال حقيقي وناجز، في حين انهم يرزحون تحت “انتداب” المزرعة بكل مفاعيله الموجِعة…

لن يكتمل الاستقلال من دون الاستقلالية التي تشكّل “نصفه الآخر”، فهل تتمكن الطبقة السياسية من جمعهما، أم سنظل ضحايا افتراقهما؟