كتب وليد شقير في صحية “الحياة”:
باستثناء مرحلة الحرب الأهلية في القرن الماضي، بدا أن احتفال لبنان باليوبيل الماسي لاستقلاله من أكثر المرات التي اقترنت بالحزن والترحم على الماضي القريب، واللامبالاة والشكوك بالمصير.
انعكست السلبيات في مواقف كبار المسؤولين والقادة على رغم الوعود التي شاء بعضهم أن يشحن النفوس من خلالها ببعض الأمل.
فأن يقول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إن “اللبناني يكاد ييأس من تناتش المصالح وملّ الوعود وواجبنا طمأنته”، يؤشر إلى أن الرئيس الذي جاء بتسوية سياسية رأى فيها فريقه، سواء عن حق أم عن مبالغة، تجديداً للعقد الذي أنتج الميثاق الوطني عام 1943 بين الرئيسن الراحلين بشارة الخوري ورياض الصلح، يعترف ضمنا بأن ما اتفق عليه مع رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري لم يحقق غرضه، مهما كان الترويج لأهمية استمرار التوافق بينهما. فالرجلان لم يتمكنا من الاتفاق على حكومة جديدة منذ 23 أيار(مايو) الماضي، وسط تنازع على السلطة بين المكونات السياسية والطائفية في البلد الصغير.
وما دعوة عون إلى “إبقاء الاستقلال والسيادة خارج نطاق الصراع على السلطة”، ثم قوله “أن يكون الوطن مستقلاً يعني أن يكون سيد قراره وأن يكون سيداً على أرضه”، إلا توصيف للحالة التي رافقت الخلاف على معالجة الكثير من المشاكل التي عاناها لبنان منذ سنتين، والتي لازمت أزمة الفراغ الحكومي المرشحة لأن تطول، وقبلها الفراغ الرئاسي سنتين و5 أشهر، والذي انتهى بانتخابه.
وسواء تقصد الرئيس اللبناني أن يسقط معادلة تلازم الاستقلال مع سيادته على قراره، على الأزمة الحكومية الراهنة أم لا، فإن واقع الحال لا يخطئ في هذا الإسقاط. بل أن الفرقاء الذي يفضلون توصيف الأزمة على أنها محلية المنشأ يضمرون العكس، في سياق اعتقاد بأن إخفاء السبب الحقيقي، الخارجي، يساعد في إخراج بعض من حبس نفسه في موقفه أن يسترد مفتاح القفص الذي دخله، ليلج المخرج في حال حسن الظن، أو أنه يمعن في إيجاد الغطاء الداخلي لغرض خارجي من وراء تعقيد ولادة الحكومة.
لطالما جرى تكييف قواعد إدارة السياسات الداخلية في لبنان مع التدخلات الخارجية، باختراع أعراف متسلسلة أغرقت اللعبة السياسية بالمتناقضات الغريبة عن أصلها حتى لا يكون لبنان سيد قراره. ولربما هذا ما دفع واحداً من أركان هذه اللعبة التاريخيين وليد جنبلاط إلى القول: “لبنان فيروز وزكي ناصيف انتهى. هناك لبنان آخر”. ومن أبرز ما جرى اختراعه للتحكم بالتوازنات الداخلية هو التلاعب بمفهوم “الميثاقية” من أجل إحباط التسويات النابعة من هذه التوازنات، لتكريس اختلالها نتيجة مآرب خارجية. باتت الميثاقية مرتبطة بإرادة فريق سياسي ضمن طائفة من الطوائف وليس بدور الطائفة نفسها. بعض من ارتكب هذا الاختراع، وغيره من الابتكارات الهجينة اللادستورية، يقع في فخها الآن. فهي تسول للساعين إلى وضع اليد على القرار السيادي اللبناني أن يتسلحوا بقواعد مفتعلة كي يحققوا مرادهم.
هناك وسائل أخرى قوضت الاستقلال اللبناني خلال العقود الماضية، هي اتفاقات شرّعت قوى عسكرية خارج شرعية الدولة وفوقها، قادت إلى المآسي والحروب والإفقار والتخلف والاهتراء الذي عشش الفساد في أحضانه على المستويات كافة. من “اتفاق القاهرة” مع منظمة التحرير الفلسطينية، إلى “معاهدة التعاون والأخوة والتنسيق” مع سورية التي بررت نقض اتفاق الطائف حول الانسحاب السوري، وصولا إلى معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 . وهي المعادلة التي قادت إلى حرب 2006 مع كل مفاعيلها على الداخل اللبناني، وسوغت اجتياح “حزب الله” كونه العمود الفقري للمقاومة بيروت والجبل عام 2008، وكرست احتساب فائض القوة، الإقليمي المنشأ، في تكوين السلطة السياسية والنفوذ في مؤسسات أمنية وقضائية…
وإذا صح القول إن تاريخ لبنان منذ عهد المتصرفية في القرن التاسع عشر، يقوم على دور الخارج في تركيب السلطة، فإن القدر من الاستقلالية للاعبين المحليين، مهما كانت نسبته، بقي يحظى بشيء من “التسامح” الذي دفع خبثاء إلى التندر على الانتداب الفرنسي حين اعتبروا أن الاحتفالات تعم فرنسا في عيد استقلال لبنان، لأنها تخلصت منه عام 1943.
عام 2000، حين احتج أحد حلفاء سورية الكبار أمام الرئيس الراحل حافظ الأسد، على إبقاء حجة مزارع شبعا لاستمرار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي “لأن اللبنانيين تعبوا من الحروب يا سيادة الرئيس” قال له الأخير: “تاريخكم حروب. فلتتحملوا كرمى لمصالح سورية”.
حتى تلك المساومة على سيادة القرار مع الإرادة السورية، لم تعد متاحة. فالأخيرة فقدت سيادتها لمصلحة نفوذ إيران… وتحولت ساحة.