كتب علي نون في جريدة المستقبل:
في استعادة بعض النصوص القديمة هروب (أكيد) من استعصاء اللحظة وشدّة انحطاطها.. وإشهار متواضع لرفض النزول إلى سوية بعض رموز هذا الانحطاط، أو مجاراة “ثقافة الأحذية” في مدارها الوحلي والكلسي الخاص والحصري بأصحابها و”روّادها” والمجلّين فيها!
وفي سياقات التبرّم الذاتي هذا، تطفو تلقائياً وعفوياً مضادات التقيّح والعفن، وتسري دفاعاتها بسلاسة جريان الحياة، في وجه صنّاع العدم، والموسيقى في وجه النباح! والصوت الآسر في وجه قرقعة الطبول الفارغة! والجمال الأخّاذ في النفوس الكريمة والنقيّة في وجه النفوس البغيضة التي أسرها الشيطان وتخاوى معها!
هذا النصّ المستعاد عن فيروز هو محاولة للحضور في موضع الهروب .. وفيه “أن الأمر لا يحتمل أي تأويل غير مُستحب ولا فذلكة تحاول تدعيم النصّ بتعقيد راقٍ ينبذ البساطة ويرتقي إلى مرتبة النقد الصعب والملتبس الآخذ به في أحيان كثيرة إلى غير مقاصده.
ما أنا بصدده بسيط قدر المستطاع. وأليف مع عمري وتطور مشاعري وأذواقي. أو بالأحرى ركون تلك المشاعر والأذواق ومكوثها في ذاكرة الزمن الماضي حيث كل نتاج فني تقريباً كان أجود وأعمق وأنقى وأنصع وأجمل مما هو عليه اليوم.
وكأن المفارقة راكبة بالمقلوب: تطور الآلة وتقنيات التواصل جاء على حساب كل ذلك الجود والجمال والنصاعة والنقاء. وفي الفن قبل غيره وأكثر من غيره.. وبعيداً عن السينما (أو ربما قريباً منها) فإن الزمن الراهن بخيل بالفرادة الفنية وأساطيرها. بدءاً بالأصوات الماسّية النافذة والأخّاذة والمسكِرة والطربية التي تدخل في الرأس وتقيم فيه حفلة انتشاء ولا أفظع. وصولاً إلى الرسم والأدب والشعر والمسرح.
كانت “أيامنا” بهذا المعنى أحلى من هذه الأيام. وكانت فيروز صنو أعمارنا وتطورنا وأحلامنا، وارتفاع مستوى تلك الأحلام ورُتبها إلى أماكن ما كان يليق أن تكون أدنى من “تأثيرات” ذلك الصوت، ولا أقل نقاء من نقائه. ولا أدنى براءة من براءته. ولا أقل حرارة من دفئه.. كانت السيّدة مع الرحابنة وإنتاجهم تؤطّر مؤامرة افتراضية تحاكي نتعات الإبداع التقني الراهن، بل تبزّه بعمقه الروحي الأخير والأثير.
.. كانت أحوالنا الفعلية غير تلك العوالم الآتية من توليفة ذلك الصوت وتلك الأطر التي وُضع فيها.. والنشوء على وقع تلك العوالم المفترضة كان تعويضاً فذّاً، ماسّياً لا يُقدّر بثمن عن ضمور الزمن الماضي بتقنيات الحداثة. وعن ضمور الرفاه تبعاً لضمور مصادره وأسبابه المادية أساساً، وكل ما يتفرّع عن ذلك الأساس.
عوّضنا ذلك الشجو عن حرمان كثير. وهذّب مصطلحات العوز وآثاره برنين ذلك الصوت وآفاقه واحتمالاته. كبرنا وكبُر معنا لكنه في الروح أبقانا هناك أطفالاً نفترض أن دنياه أرحب وأجمل ومليئة بالأعياد وحلوى الأعياد.
لكن حيث كان يجب أن يبقى، منذ سنوات وأنا أحاول التطاول على فكرة ترنّ في رأسي كلّما استمعت إلى جديد للسيّدة فيروز، فأقمعها خشية الشطط، وأُبقيها مخبّأة خشية الإفصاح غير الاختصاصي. لكن هذه المرّة رَكِبت معي كما هي، وكما هي سأقولها: آن أوان الصمت والتوقّف عن الإمعان في تشويه ذلك الكنز وما يحويه من معجزات ومستحيلات وأشجان.
.. وكأنّ الذين (تداولوا أغانيها) الأخيرة وكتبوا عنها لا يعرفونها! ولا يعرفون مَن هي ومَن كانت! كثرٌ منهم، دخل في مسابقة إنشائية كئيبة. بعضهم أراد تسطير ما يعتقده وليس ما سمعه. وبعضهم أراد أن نقرأ له لا أن نقرأ عن “موضوعه”.. فيروز التي سمعناها لاحقاً ليست إلاّ صدىً مشروخاً لتلك التي كانت.. حضورها الجليل والعذب لا يعوّض عن تراخي الحنجرة وآثار السنوات العجاف. والحنين الآسر إلى أغاني الزمن الجميل تحوّل أو كاد إلى بحر من الحسرات..
السيّدة الجليلة صوتها أكبر من الزمن. لكن ليتها تبقى حيث كانت. متآلفة مع النجوم والسماوات وزرقة البحار.. وليتها تُبقي لنا شيئاً من تلك الطفولة التي ترفض أن تكبر وتشيخ”!