كتب سليم نصار في صحيفة “الحياة”:
حدث هذا في منتصف سنة 2006 عندما زار كارلوس غصن مصنع التجميع لشركة «رينو» الفرنسية. وكان يرافقه في جولته الاستطلاعية مراقب الأداء في الشركة جان باتيست دوزان.
وبعد انتهاء جولتهما انصرف غصن الى مكتبه الكائن في «بولوني»، بينما خرج دوزان مع مراسل مجلة «فوربس» المتخصصة في شؤون المال والأعمال.
وفوجئ دوزان بسؤال وجهه اليه مراسل «فوربس» في فرنسا، حول شعوره حيال زيارة رئيسه، فأجابه: «شعرت بأنني أسير الى جانب نصف إله… ولاحظت أيضاً أن العمال كانوا يحيونه بإعجاب، ويتدافعون لمصافحته كأنهم يعرفون دوره في تأمين العمل لهم.»
والمؤكد أن الوصف الذي قدمه مراقب المجمع الفرنسي لا يختلف عن الصورة التي رسمها له اليابانيون، لا فرق أكانوا من موظفي «نيسان»… أم من الناس العاديين. والدليل أن انتقاءه لهذه المهمة لدى أكبر شركة يابانية لصنع السيارات يؤكد حرص المسؤولين فيها على كسر القاعدة المألوفة. أي القاعدة التي يعتمدها الشعب الياباني في التعامل مع الغرباء، وايمانه بأن ما لا يستطيعه الياباني لا يستطيعه أي شخص آخر مهما كانت كفاءته. لذلك اُعتُبِر تعيينه مسؤولاً كامل الصلاحيات في شركة كانت مشرفة على الانهيار والإفلاس، شهادة اعتراف بكفاءته المميزة ونجاحاته الاستثنائية.
وبسبب كفاءته الإدارية الفريدة، أطلقت عليه صحافة اليابان لقب «سوبرمان»، وذلك من قبيل التدليل على الدور المميز الذي يقوم به.
ولقد نسب المؤرخون الى الفيلسوف الألماني نيتشه تكوين هذه الشخصية الخرافية في كتاباته. وهي شخصية مخلوق خارق الذكاء، متفوق في قدراته الجسدية.
ولكن اليابانيين وجدوا «سوبرمانهم» في منجزات كارلوس غصن الذي قلدت صورته مصانع الألعاب وحولته الى أفضل لعبة يلهو بها الأطفال. كل هذا لأن الشعب مدين له بانقاذ أهم شركة لإنتاج السيارات.
والملفت أنه بلغ من ثقته بنفسه حداً غير مسبوق، بحيث أنه وعد أعضاء مجلس الادارة بإنهاء مهمته خلال ثلاث سنوات فقط. وهكذا حققت شركة نيسان سنة 2001 أكبر ربح في تاريخها. وهذا ما اعترف به أعضاء مجلس الادارة الذين لمسوا عملية الإنقاذ والتطوير منذ سنة 1999، أي سنة تولي غصن رئاسة الشركة.
ولكن هذا الانتقاء لم يأتِ من فراغ. ذلك أن وجوده في البرازيل، عقب نيله دكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس، سهّل له قبول العرض الذي قدمته شركة «ميشلان»، وبعد تعيينه مديراً لأهم شركة دواليب للشاحنات العملاقة وصناعة الأسلاك الفولاذية، عاد الى فرنسا ليجد الحظ في انتظاره.
وقد تجلى ذلك الحظ عبر شركة رينو التي كانت تمر بأوضاع غير مستقرة بسبب طلب الحكومة الروسية أموالاً لضخها في شركة «افتوفاز» المنتِجة لسيارات «لادا» والتي تملك رينو حصة 25 في المئة فيها. كذلك فشل اتفاق بين رينو وشركة ماهيندرا الهندية، فيما ظلت مسألة دخولها الأسواق الصينية معلقة.
وهكذا تعرضت رينو، التي كانت تملكها الدولة الفرنسية سابقاً، لضغوط الحكومة ورفضها نقل جزء كبير من انتاج سيارتها «كليو» الصغيرة الى تركيا.
على ضوء ذلك التراجع الذي أصاب رينو بالشلل، تدخل غصن ليقوم بعملية دمج أدت الى إنقاذ شركتين، واحدة في اوروبا والأخرى في آسيا. ولكن كيف حدث ذلك؟
سنة 1996 كانت شركة رينو للسيارات تعاني من ركود في الأسواق الأوروبية والشرق أوسطية، الأمر الذي دفع برئيس الشركة لوي شويتزر الى الاستنجاد بكارلوس غصن. ولدى قبوله العرض، عيّنه في منصب مدير عام للمشتريات والصناعة والبحوث والهندسة والميكانيك.
بعد ثلاث سنوات، أي سنة 1999 وافق كارلوس أيضاً على تولي منصب المدير التنفيذي لشركة نيسان عندما كانت تدنو من الإنهيار والإفلاس. والسبب أنها منيت بخسائر فادحة تجاوزت الـ 5.7 بليون دولار خلال سنتي 2001 و2002.
وبفضل الاستراتيجية الجديدة التي رسمها غصن، تمكنت الشركة من تقليص حجم خسائرها وديونها. وبسبب الاداء المالي المتميز تحولت نيسان من شركة خاسرة الى شركة رابحة، وقد فرضت تلك النقلة النوعية على نائب غصن، ماتسومورا، الاعتراف بأن الأهداف الطموحة التي وضعها غصن نصب عينيه، قفزت من 2.6 مليون سيارة الى 3.6 ملايين.
بدأت مصانع نيسان تدخل أسواق المنافسة والتحدي في صيف 2003. أي عندما زاد غصن الانتاج بثلاثة موديلات جديدة وبحجم تعدى المليون سيارة دخلت الى اميركا الشمالية. وشكلت تلك العملية أول منافسة حقيقية لسيارتي تويوتا وهوندا. واعترف الخبراء أن التحول الذي شهدته نيسان يُعتبر الأكثر إثارة في تاريخ الشركات الآسيوية، مما جعل كارلوس نجماً بارزاً تحتفي به الأوساط اليابانية والاوروبية، بحيث حصل على ألقاب عديدة وأوسمة مختلفة لم يعرفها الآخرون من أمثاله.
ولقد اعتُبِرَت المكافأة المعنوية التي حصل عليها من بريطانيا من أفضل المكافآت وأكثرها تقديراً واحتراماً. ففي ربيع سنة 2007 أقيمت في السفارة البريطانية في طوكيو حفلة إقتصر حضورها على مئة شخصية تنتمي الى ميدان الأعمال والسلك الديبلوماسي. وقد سلم السفير البريطاني كارلوس غصن وساماً يحمل لقب «فارس الامبراطورية البريطانية.» وذكر في ذلك الحين أن الملكة اليزابيث خصّته بهذا اللقب نظراً للخدمات التي قدمها من طريق مصنع السيارات الذي أنشأته نيسان في منطقة ساندرلاند. وقد أمّن المصنع ستين في المئة من حاجة سوق السيارات المباعة في اوروبا.
ولكن كيف نجح غصن في اختراق مجتمع آسيوي لم يسبق أن خبره من قبل؟
يقول أصدقاؤه إن الخلفية الثقافية المركبة ساعدته على الإنغماس في المجتمع الياباني حيث سبق له أن تولى مناصب تنفيذية في أربع قارات. إضافة الى هذه الإيجابيات، فإن إلمامه باللغات: العربية والفرنسية والانكليزية والبرتغالية والايطالية والإسبانية… واليابانية، كل هذه اللغات شكلت علاوات إضافية اختصرها مصمم الموديلات في نيسان بهذه العبارة: غصن ليس يابانياً وليس برازيلياً وليس فرنسياً. إنه «قائد» موهوب فقط. لأنه في حال عكست جنسيته شخصيته، فإن نجاحه يبقى محدوداً.
ولكن هذا كله لا ينفي أن كارلوس غصن هو سليل عائلة كانت تملك البنك البرازيلي في لبنان. وفي السادسة من عمره عاد من البرازيل مع والدته وشقيقته للدراسة في «مدرسة الجمهور.» وبعد هذه المرحلة سافر الى فرنسا حيث تنقل في عدد من مؤسساتها العلمية وحصل من جامعة باريس على دكتوراه في العلوم الاقتصادية. ومن المؤكد أن تنقلاته المستمرة من بلد الى بلد قد زودته بالقدرة على التكيّف مع البيئات الجديدة. وهذا ما يفسر قوله: «في كل دولة أكون شخصاً مختلفاً.»
الأسبوع الماضي، من دون أي مؤشرات أو مقدمات، سقطت كل هذه المنجزات في زنزانة السجن في طوكيو. وعلى الفور طرحت وسائل الإعلام في كل مكان أسئلة تتعلق بمفاجأة اعتقال كارلوس غصن (64 سنة) وما رافقها من حكم مسبق عليه. وهكذا أدخِلَ «سوبرمان» نيسان – كما ذكرت جريدة لوفيغارو – الى معتقل انفرادي لا تزيد مساحته على طول جسده.
ومنذ صدور قرار توقيف غصن والمراسلون في طوكيو يحاولون استكشاف الأسباب الحقيقية التي استحق بسببها الإذلال والإهانة.
بعضهم لمّح الى توظيف شقيقته بأجر قدره مئة ألف دولار في السنة.
ولكن هذا السبب لم يكن كافياً، خصوصاً أن شقيقته كانت منتجة وإدارية، ومضى على توظيفها عشر سنوات دون اعتراض من مجلس الشركة. علماً أن المعيار في هذا المجال يتوقف على حسن الاداء. ومثل هذا الاتهام يشمل آلاف المواقع بدءاً بالرئيس دونالد ترامب الذي وظف صهره وابنته… وانتهاء بالرئيس ميشال عون الذي وظف صهره جبران باسيل!
التهمة الثانية تقول إنه كان يستعمل طائرة الشركة لأغراض غير مبررة، بينها نقل زوجته الثانية كارول من طوكيو الى نيويورك… وبالعكس.
ومن الطبيعي أن يسخر كارلوس من هذه التهمة، وهو الذي يتقاضى أعلى أجر في عالم الشركات بحيث يزيد على 44 مليون دولار سنوياً. إضافة الى علاوات أخرى بينها ست شقق فارهة في طوكيو، ومنزل في بيروت، وآخر في نيويورك. إذن، من كان يتقاضى هذا الأجر الخيالي لا يعقل أن يفكر بتوفير عشرة آلاف دولار!
صحيفة «طوكيو شيمبون» كتبت تقول إن غصن، أثناء انعقاد الجمعية العمومية للشركة سنة 2010، أعلن عن ضرورة التحلي بالشفافية والكشف عن مداخيل كبار المسؤولين في نيسان التي تملك رينو 25 في المئة من أسهمها.
أما الصحف الفرنسية فقد وصفت ما حدث لغصن بأنه إنقلاب صامت قام به كبار موظفي الشركة ضد رئيس غريب لا يسمح بإخراج رينو من هذا التجمع. وبما أن شركة نيسان، التي تعافت من كبوتها بفضل كارلوس غصن، أصبحت قادرة على الاستقلال عن مشوراته وعن مرتبه الضخم، فإن ساكاوا، الذي عيّن مديراً السنة الماضية، جاء ليؤمن هذه الاستقلالية. ومثل هذا الأمر الخطير لا يتم بوجود غصن، الأمر الذي استدعى خلعه ولكن تحت غطاء أسباب قانونية.
الى الآن لم يتم توجيه الإتهام رسمياً الى غصن، إبن عجلتون، ولكن باستطاعة المدعي العام الياباني وضعه رهن التحقيق مدة 22 يوماً، بينما التحقيق الكامل يستغرق مدة أقصاها 60 يوماً. وقد ذكر نائب المدعي العام أن كارلوس غصن يواجه حكماً يصل الى عشر سنوات. ولكن الأسباب التخفيفية تسمح بتعديل الحكم، شرط أن يثبت محامي المتهم أن مجلس إدارة نيسان قد تآمر لطرد غريب كان الغريب الوحيد الذي استقدمته شركة يابانية من أجل انقاذها من الإنهيار والإفلاس!
وهذا يذكر بمقولة رفيق الحريري: «لا أحد يستطيع أن يكون أكبر من بلده.» ومشكلة كارلوس غصن أنه كان يطمح الى تجاوز هذه القاعدة!
اقرأ المزيد:
كارلوس غصن “حلاّل المشكلات” الذي لم يجد لمشكلته حلا