منذ بدء مفاوضات تشكيل الحكومة، يعتمد “حزب الله” سياسة التلطي وراء الآخرين. كان مسروراً جداً بمطالب حزبي التقدمي الاشتراكي و”القوات اللبنانية”، وقد أرسل رسائل بالواسطة الى “القوات” مشجعاً على استمرارها بالمطالبة بحقيبة سيادية، قبل أن تدرك الأخيرة أهمية التضحية وعدم القبول بالاستمرار في الفراغ الحكومي في ظل الأوضاع الخانقة.
عند هذا الحد أخرج “حزب الله” أرنب تمثيل النواب السُنة في 8 آذار، الممثلين أساساً من خلال تمثيل الكتل التي ينتمون إليها (4 من أصل 6 نواب ينتمون الى كتل “المردة” و”حزب الله” و”أمل”). دفع السيد حسن نصرالله بهؤلاء النواب الى الواجهة ليستمر في العرقلة ورفع شعار “أرضى بما يرضون به”، وشرطه الضمني لهم ألا يرضوا بشيء. حاول نصرالله أن يُنسي اللبنانيين أنه قدّم نصيحة للمعنيين في الليلة العاشورائية ما قبل الأخيرة بـ”ألا يضع أحد مواعيد لولادة الحكومة”، وهو المدرك أنه لن يسمح بولادتها في المدى المنظور!
لكن، وبعيدا من المناورات المكشوفة، فإن ما لم يقله “حزب الله” قاله نيابة عنه الشيخ المقرّب جداً منه صادق النابلسي في مقابلته الأخيرة، ولعلّ أهمّ ما جاء فيه: “هناك توازنات جديدة في البلد وخارجه وعلى الحريري أن يشكل الحكومة على أساسها. نحن اليوم في مرحلة غالب ومغلوب و”حزب الله” انتصر وقرّر الدخول شريكاً مضارباً في الحكم، وعلى الجميع أن يفهم أن المعادلة تغيّرت”.
هكذا إذاً يتصرّف “حزب الله” على أنهم “الغالبون” و”المنتصرون” على بقية اللبنانيين من دون استثناء. يتصرّف أنه منتصر على الرئيس المكلّف سعد الحريري والسُنّة في لبنان ويريد أن يفرض استسلامهم من خلال تجريد رئيس الحكومة من أبسط قواعد “حصته” الحكومية كرئيس للحكومة ولتيار المستقبل، ويعيّن الحزب نفسه وصياً على توزيع الحصص الحكومية. ويتصرّف الحزب أيضاً على أنه “منتصر ” مع رئيس الجمهورية ورئيس “التيار الوطني الحر” فيمنع عنهم الثلث المعطّل، ويعطّل الحكومة التي كان أعلن الرئيس ميشال عون أنها ستكون حكومة العهد الأولى، فيضرب العهد ويمنعه من تحقيق أي إنجاز كان يمنّي النفس به.
ويتصرّف الحزب أيضاً على أنه “المنتصر” والشريك المضارب في قلب الطوائف والمذاهب، وإن عبر معارك بالواسطة مع الحزب الاشتراكي و”القوات اللبنانية” وتيار المستقبل.
ولا يكتفي الحزب بالتعطيل الداخلي نسبة لما يعتبره “انتصاراً”، بل يؤشر الى أن محوره انتصر إقليمياً ما سيغيّر بنظره كل المعادلات.
ولكن في سكرة “انتصارات” الحزب المزعومة ثمة سؤالان لا بدّ من طرحهما:
ـ هل انتصر محوره إقليمياً بالفعل؟ المؤشرات لا تشير إلى ذلك على الإطلاق، لا بل إن ثمة مؤشرات تشي بالعكس. فالعقوبات الأميركية الجديدة والقاسية على إيران أدخلت طهران في مرحلة خطرة اقتصادياً باتت معها الجمهورية الإسلامية في موقع الدفاع المحشور، في موازاة توجه أوروبي إلى ملاقاة إدارة ترامب عبر فرض عقوبات أوروبية جديدة، وإن استندت على التحضيرات الإرهابية لإيران لأعمال تخريبية في عدد من العواصم الأوروبية ضد معارضين إيرانيين. كما أن وضع إيران في الداخل السوري لا يبدو مريحاً بعد أن أحكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبضته على القرار السوري، وبعد أن ظهرت إسرائيل في موقع المتحرر عبر الاستمرار في توجيه الضربات الجوية للمواقع الإيرانية وسط غض نظر روسي وعجز إيراني عن أي رد فعل. ناهيك عن عدم القدرة الإيرانية على الحسم سياسياً في العراق كما كانت الحال في السابق، إضافة إلى تراجع الحوثيين المضطرد في اليمن.
ـ هل انتصر “حزب الله” في الداخل اللبناني؟ الجواب عن هذا السؤال ينقسم إلى شقين: في الشق الأول يدرك الحزب وحلفاؤه أن لبنان لا يُمكن أن يُحكم أبداً وفق منطق “الغالب والمغلوب” مهما تبجّح البعض بقوته، وخصوصاً في ظل فسيفساء لبنانية معقدة من جهة، وفي ظل احتمال خسارة الحزب في أي لحظة لحليفه القوي “التيار الوطني الحر” ورئيس الجمهورية الممتعضين من ممارسة الحزب السياسية واستمراره في التعطيل. وفي الشق الثاني هل يعمد أي منتصر إلى توتير الأوضاع الداخلية كما شهدنا في الأيام الأخيرة، ولو بالواسطة كما حصل في الجبل من التطاول والكلام المقزز مروراً بالاستفزازات السيارة وصولاً إلى حادثة الجاهلية وكل ما رافقها من كلام؟
عملياً الجميع يعلم أنه لطالما شكّلت التوازنات على الساحة اللبنانية انعكاساً صريحاً للتوازنات الإقليمية، ما يُنذر في أي لحظة بإمكان تحويل “انتصار” الحزب المزعوم خسارة مدوية بحسب اتجاه التطورات الإقليمية المتسارعة.
في الخلاصة، هل “انتصر” الحزب؟ الجواب الوحيد أنه قد يكون من المبكر جداً الاحتفال بـ”انتصار” ما، وأن المتاح الوحيد حتى إشعار آخر هو ممارسة التعطيل ما قد يُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، والحزب نفسه لن يسلم عندها!