كتب وسام سعادة في صحيفة “المستقبل”:
لعبة افتعال المعايير البديلة عن الأساسيات الدستورية هي لعبة باتت بالفعل لا تُحتمل، وهي آخذة في ضرب هذا النوع من الاستقرار الهشّ، المنكمش، المتقلّب، الذي حافظ عليه على الأقل البلد، اذا ما قوبل الوضع الداخلي فيه بالحرائق التي اشتعلت، ولا تزال في الاقليم. استقرار نسبي، وكئيب، وأقرب ما يكون الى الكبوة والركود، استقرار بشروط انعدام التوازن، وتنقّل التعطيل بين مؤسسة دستورية وأخرى، وسلم أهلي يوجد عند كل عتبة من يريد أن يُخبرك أنه لا يستند الى ضمانات مزمنة وشاملة وعادلة وأكيدة.
لكن ما يحدث حالياً، في غمرة الإمعان في عرقلة تشكيل الحكومة، والإمعان في وضع العراقيل امام اشتغال المؤسسات الدستورية، هو منطق يلعب بشكل “هواتي” وخبيث في آن، بالمعطيات الاهلية، المذهبية والطائفية. في الوقت نفسه يجري تقديم الشيء ونقيضه، نظرة “تمثيلية شاملة” تعتبر ان من حق كل فئة ان تتمثّل، من حيث ما تمثّله، أكثرية كانت أو أقلية ضمن طائفتها، ونظرة “امتهانية” شاملة في الوقت نفسه، لحساسيات لها نطاق تأثير واسع ضمن طوائفها.
وهذا غيض من فيض مشكلة مستفحلة أكثر فأكثر: الاختلاط الفظ بين اللاطائفية، والطائفية، في الخطابات السياسية والاعلامية، بحيث تحولت اللاطائفية الى واحدة من اسلحة الطائفية، وبحيث باتت العلمانية، اذا عنت شيئاً ملموساً في وضع بلد كلبنان، فهي تعني، اول ما يفترض ان تعنيه، العمل على فصل المقال بين الطائفية واللاطائفية، من كثرة ما يتداخلان، بشكل يزيد من وطأة الطائفية، ويُخرجها من كل معيار دستوري كان يحدّها ولو على نحو جزئي، قبل ذلك.
البرامج السياسية والنشرات الاخبارية عبر التلفزيونات في الايام الاخيرة أدمنت هذا التخليط الغريب العجيب بين الطائفية واللاطائفية. نفس الشخص الذي يبدأ بعموميات لاطائفية في اول المقابلة، سرعان ما يستعين بهذه العموميات للتهديف بقصد طائفي على اشخاص ومجموعات بعينها. نفس الوسيلة الاعلامية التي تقدم نفسها كلاطائفية حيث ترتأي ذلك، تتحوّل الى طائفية نافرة في ملف آخر. قد يكون سحب ادعاء اللاطائفية من التداول، أول السبيل لفصل اللاطائفية عن الطائفية، وإرجاع الاخيرة الى مستوى أقل استفحالاً مما اليه الامور سائرة هذه الايام.
على الصعيد الآني، ينبغي دائماً التذكير بأن الاستهتار باستقرار هشّ بحجة انه هشّ لا يساعد في الانتقال الى نمط أكثر توازناً واستقراراً أبداً.
وفي الوقت عينه، الاستقرار الهشّ لا يمكن ان يدافع عنه من جانب واحد، في حين يزيده الجانب الآخر، خصوصا اذا كان جانب المتغلب، هشاشة.
التناقض بين ان تكون ضنيناً على تمثيل الاقل حجماً ضمن طائفة اخرى، وبين احتكارك التمثيل في طائفتك، وبين عدم مراعاة الحساسيات الراجحة في الطوائف الاخرى، هو تناقض مستفحل. يمكن فهم ان لا يراعي حزب علمانوي حساسية في طائفة اخرى، لكن ان يراعي حزب مذهبي هذه الحساسية في طائفة اخرى، ان يتصنع عندها موقفاً علمانوياً، لاطائفياً، ويطالب في الوقت نفسه، بمراعاة حصة الأقل تمثيلاً في الطائفة الاخرى، وبمعيار طائفي بحت لوزن الامور، كل هذا يزيد من التهاب الصخب الاستفزازي الحالي، بلا طائل.
لأنه، من وراء هذا الصخب، كمية الافتعال كبيرة. الافتعال وحده هو التوصيف الدقيق لوضعية لا تتشكّل فيها حكومة لعرقلة تتعلق بمقعد وزاري واحد تقريبا لخمسة اشهر، ثم بمقعد وزاري افتراضي اخرى لفترة زمنية جديدة ثمة من “يطمئننا” بأنها ستكون اطول.
وبعكس النظرة التي تميل دائماً الى تفسير هذا الافتعال بأسباب موضوعية، بدوافع سياسية، بحسابات داخلية وخارجية، ربما قد يكون الأنسب ايضاً الاشارة الى ان ثمة ما هو بلا طائل، ثمة ما هو افتعال للافتعال، في كل هذا. عبثية يبقى لها سبب في آخر النهار طبعاً: عرض العضلات، الاشارة الى الأحجام والأوزان، التشديد على ان الأحجام والأوزان ينبغي ان تكون غير متوازنة، وان يكون “التمثيل شاملاً ودقيقاً” في نفس الوقت!! التشديد على ان الأحجام والأوزان غير محدودة لا بنصوص دستورية، ولا بقانون دستوري من اساسه، مثلما هي، سيادة القانون، “اختيارية”.