كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
أعدّ مصرف «غولدمان ساكس» تحليلاً للنظام المالي اللبناني، يخلص إلى أن لبنان يقف على شفير الانهيار المالي، إذ إن الخيارات محدودة بين تحفيز التدفقات الرأسمالية من الخارج وبين خسارة الثقة بهذا النظام، ما يفرض حصول تصحيح قسري عنوانه أزمة توقف عن السداد وانهيار سعر صرف الليرة الثابت مقابل الدولار، وذلك بعد سنتين أو ثلاث سنوات كحد أقصى.
المصرف الأميركي يستند إلى سيناريو يأخذ في الاعتبار مجموعة مؤشرات مالية، أبرزها قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في استقطاب الدولارات عبر القطاع المصرفي، سواء عبر نموّ الودائع أو عبر الهندسات المالية. ولا يخفي التقرير أن بنية النظام المالي بدأت تصبح أكثر هشاشة، وإن كانت تظهر بشكل متماسك حتى الآن. ففي هذا المجال يشير إلى أن «المناعة اللافتة التي أبداها النظام المالي في لبنان، خلال السنوات الأخيرة، بدأت تصبح أكثر هشاشة، فيما تزداد المخاوف من احتمال مواجهة أزمة مالية يتبعها توقف لبنان عن تسديد الديون».
هذه الخلاصة استنتجها المصرف المذكور من «أسعار الأصول في لبنان، حيث ارتفعت الهوامش على الدين اللبناني بشكل كبير في الأشهر الأخيرة، فضلاً عن ارتفاع هوامش الفائدة على الودائع بين الليرة والدولار، والتي تعدّ أحد المؤشرات على مخاطر العملة، وارتفاع معدلات الفائدة المدفوعة على الودائع بشكل عام».
هذه الهشاشة بدأت تظهر خلال السنوات الماضية، إلا أنها «ارتفعت أكثر منذ 2017 إلى اليوم». من أبرز الاستدلالات عليها: «تباطؤ تحويلات المغتربين التي تشكّل جوهر عوامل القلق». فهذه التحويلات كان لها دور أساسي في تمويل جزء من الحاجات المالية للبنان. وينقل التقرير عن مصرف لبنان أن هذا الأخير يعزو التباطؤ الذي أصاب التحويلات، إلى ارتفاع المخاطر الجيوبوليتيكية، وانخفاض أسعار النفط ابتداءً من عام 2014، وعدم الاستقرار السياسي المحلي، وكذلك تباطؤ نمو الاقتصاد. ونضيف إلى هذه العوامل «تراجع الدعم الخارجي بسبب التوترات بين لبنان ودول الخليج، ولا سيما ما حصل في تشرين الثاني 2017 مع رئيس الحكومة سعد الحريري».
العنصر الثاني في ظهور هذه الهشاشة هو تدفقات الودائع. ففي أيلول 2018 سجّلت تدفقات الودائع 2.4 مليار دولار، أي ما يوازي 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة مع 7.3 مليارات دولار أو ما يوازي 13% من الناتج في السنة السابقة. عند هذه المستويات «ارتفعت المخاوف من قدرة لبنان على الاستمرار في تمويل عجزه الثنائي (عجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات)، فهل هذه المخاوف مبررة؟».
يعود «غولدمان ساكس» إلى دراسة السنوات الـ15 الماضية، حين كانت تدفقات الودائع تغطي العجز المالي للخزينة. لكن في ظل غياب دفع قوي لنموّ الودائع لما تبقى من هذه السنة، فـ«إننا نتوقع قصورا في التغطية المالية لعام 2018 بقيمة ملياري دولار، أو ما يوازي 3.4% من الناتج المحلي».
المشهد يزداد قتامة بالنسبة إلى المصرف الأميركي بعد دراسة التمويل الخارجي (أي المبادلات المالية بين لبنان والخارج). يرى أنه في السابق كانت تدفقات الودائع كافية لتأمين تغطية كاملة لكل متطلبات التمويل في لبنان، لكن «في 2017، وبحسب حساباتنا، فإن هذه التدفقات لم تغطِّ أكثر من نصف هذه الحاجات، وفي عام 2018 نتوقع أنها لن تغطي أكثر من الثلث. هذا يعني أن هناك فجوة في التمويل الخارجي الإجمالي بقيمة 6.2 مليارات دولار، أو ما يوازي 21% من الناتج في 2017، وبقيمة 8.8 مليارات دولار أو ما يوازي 21% من الناتج في 2018». التمويل الخارجي يعبّر عن حاجة لبنان إلى تدفق الدولارات لتمويل عجزي المالية العامة والحساب الجاري (المصدر الأساسي لعجز الحساب الجاري هو عجز الميزان التجاري البالغ 15 مليار دولار في عام 2017).
على أي حال، إن فجوة التمويل الخارجي، أي المبالغ التي يحتاج إليها لبنان لسدّ العجز الثنائي، دَفعت مصرف لبنان إلى تنفيذ الهندسات المالية. في رأي المصرف الأميركي، فإن هذه الهندسات «ساعدت على شراء الوقت ولها كلفتها. اعتمدت هذه الهندسات على استقطاب الدولارات من القطاع المصرفي». وبحسب النقاشات التي أجراها «غولدمان ساكس» مع زبائنه (لديه الكثير من الزبائن في لبنان)، فقد برزت أسئلة تتعلق بمدى «قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في تنفيذ مثل هذه العمليات. فإذا بقيت معدلات نموّ الودائع عند مستوى 3% سنوياً، فإن الفجوة الإجمالية في التمويل الخارجي سترتفع من 12.5 مليار دولار في 2019 إلى 14.8 مليار دولار في 2023، فيما ستتراوح الفجوة المالية الصافية بين 5.5 مليارات دولار و6 مليارات دولار. تمويل الفجوة الصافية هو الهدف الذي يسعى إليه مصرف لبنان الذي يحمل حالياً 35 مليار دولار من الاحتياطات الإجمالية بالعملات الأجنبية.
ووفق التقرير نفسه، فإن احتياطات مصرف لبنان «كافية لتغطية الفجوة المالية الصافية على مدى السنوات الخمس المقبلة، وهذا يعطي المستثمرين الثقة ويحافظ على ثبات سعر صرف الليرة. لكن في الحقيقة تبدو الصورة مختلفة بسبب وجود قيود على استخدام هذه الاحتياطات، من أبرزها أن انخفاض الاحتياطات ينعكس على الثقة بتثبيت سعر صرف الليرة ويرفع مخاطر هروب رؤوس المال».
في هذا المجال، يركّز «غولدمان ساكس» على مؤشر أساسي، هو احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية نسبة إلى الكتلة النقدية M2 التي تمثّل مجموع الكتلة النقدية قيد التداول مع مجموع الودائع بالليرة اللبنانية. كانت هذه النسبة، تاريخياً، «تتراوح بين 70% و80%، إلا أنه منذ الفترة ما بين 2014 و2015 انخفضت وصولاً إلى أقل من 60% في منتصف 2016 ما دفع مصرف لبنان إلى تنفيذ الهندسات المالية التي أعادتها إلى ما بين 60% و70%».
على هذا الأساس يضع المصرف الأميركي سيناريو عن استخدام هذه الاحتياطات، حيث «إذا قرّر مصرف لبنان أن يغطي الفجوة في التمويل الخارجي من احتياطاته، فإن النتيجة ستكون تراجعاً في هذه الاحتياطات بقيمة تتراوح بين 5.5 مليارات دولار و6 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، وبالتالي ستنخفض الاحتياطات نسبة إلى M2 لتبلغ 10%». هذه النتيجة، بحسب المصرف نفسه، «ستؤثّر على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وترفع المخاطر من حصول هروب رؤوس الأموال بشكل ملحوظ».
لهذا السبب حاول مصرف لبنان أن يغطي الفجوة التمويلية عبر القطاع المصرفي الذي نال حوافز سخية: «طالما ظلت المصارف قادرة على تمويل مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، سيبقى الأمر على حاله. والمصارف لديها 10.3 مليارات دولار من الودائع بالعملات الأجنبية في مصارف خارج لبنان، وتحمل نحو 17 مليار دولار من سندات «اليوروبوندز» والأصول الأخرى القابلة للتسييل نسبياً، بالإضافة إلى ديون سوقية بقيمة 40 مليار دولار». سيناريو «غولدمان ساكس» يستند إلى الحدود الضيقة في استعمال هذه الأصول بالعملات الأجنبية، وهو يرى أن ودائع المصارف في الخارج تغطي أقل من سنتين من الفجوة المالية، إلا أنه يعتقد أن مصدر العملات الأجنبية بالنسبة إلى المصارف لا يقتصر على ذلك، بل تمكنت في الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية من تسييل أكثر من 500 مليون دولار من سندات «اليوروبوندز» وخفضت الديون السوقية بالدولار بقيمة 1.2 مليار دولار واستقدمت ودائعها في الخارج بقيمة 1 مليار دولار، ليصبح المجموع 2.7 مليار دولار».
ويخلص التقرير إلى أنه يمكن المصارف الاستمرار في استجلاب السيولة بالعملات الأجنبية من الخارج، فيما لدى مصرف لبنان القدرة على خفض احتياطاته بشكل طفيف (بمعدل 1 مليار دولار سنوياً)، وفي هذه الحالة «فإن الطلب على السيولة بالعملات الأجنبية من ودائع المصارف في الخارج يصل إلى 3 مليارات دولار سنوياً، ما يعني أن التمويل الخارجي متاح حتى نهاية 2021».
إذاً، في ضوء هذا السيناريو المستند إلى نموّ للودائع بمعدل 3%، فإن هناك «مساراً مستداماً خلال السنتين المقبلتين، أو ثلاث سنوات كحد أقصى، لكن في رأينا أنه لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد يسير بثبات نحو الأزمة أكثر من ذلك. قد يحصل أمر من اثنين خلال الفترة المقبلة: يزداد نمو الودائع إلى الحدود التي تغطي الفجوة المالية، أو يخسر لبنان الثقة وتتسارع الأمور نحو سيناريو التوقف عن السداد. وفي حال عدم القدرة على تحفيز نمو الودائع والتدفقات من الخارج، فإنها مسألة وقت قبل أن تتقلص قدرة مصرف لبنان على الإمساك بثبات سعر صرف الليرة مقابل الدولار».