Site icon IMLebanon

القناة 800: مشروع حيوي… بلا جدوى!

كتب حبيب خضرا في صحيفة “الأخبار”:

هل من جدوى لمشروع «القناة 800» لجرّ مياه الليطاني الى الجنوب؟ السؤال تفرضه الهنّات «عير الهيّنات» التي تشوب المشروع الذي بلغت كلفة مرحلته الأولى نصف مليار دولار، من استناده الى معطيات ودراسات تعود الى مطلع الألفية، إلى غياب التقديرات الواقعية لكميات المياه التي يوفرها وللمساحات الزراعية التي يفترض أن يرويها، وليس انتهاءً بالتلوث الذي يهدّد المشروع من أساسه

هذا هو التوصيف الحقيقي لمشروع «القناة 800» لجرّ مياه الليطاني الى الجنوب. وما سيلي هو برسم كل الجهات السياسية المعنية، وكل الإدارات الرسمية التي وافقت على الخرائط التنفيذية وأعطت أمر المباشرة بالعمل، وتلك التي قبلت أو تغاضت عن سياسات عمل كان يفترض مناقشتها قبل التنفيذ. إذ إن المشروع، في خطوطه العامة، أعدّه المهندس إبراهيم عبد العال عام 1948، وتجددت دراساته عام 2001، ما يعني أن كثيراً من المعطيات الميدانية والجغرافية والطبيعية التي تغيرت منذ ذلك الوقت لم تؤخذ في الحسبان.

أولاً، دراسة الجدوى الاقتصادية والمالية الوحيدة الخاصة بالمشروع التي أعدّتها شركة «دار الهندسة» عام 2001، استندت إلى مسوحات جوية تعود لعام 2000، وهو العام الذي حدث فيه الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. وقتها، لم تكن المناطق المستهدفة بالمشروع قد اجتاحتها بعد «حمّى» البناء الأولى، ولا «حمّى» البناء الثانية بعد عدوان تموز 2006. وبالتالي، من المؤكد أن المساحات التي يستهدف المشروع ريّها (13231 هكتاراً) لم تعد موجودة!

ثانياً، يعتمد قياس العناصر الإنشائية في المشروع على كميات المياه المفترض الاستفادة منها. بمعنى أن الكميات المطلوبة لري الخضار هي غيرها المطلوبة لري الأشجار المثمرة، وهي غيرها أيضاً في حال اعتماد زراعات لا تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه مثل الزعتر أو الخروب أو الزيتون. ويقود ذلك إلى السؤال عن حجم التجهيزات الضخمة التي أقيمت، ومنها على سبيل المثال: 6 خزانات رئيسية بسعة إجمالية تصل الى 54 ألف متر مكعب، ومحطة ضخ في بنت جبيل بقوة 724 ليتراً في الثانية، ونفق في مركبا بقطر 2.2 متر.

ثالثاً، إن عدم تجديد دراسة الجدوى قبل بدء تنفيذ المشروع يعني أنه لم يأخذ بالاعتبار تغيّر الأنشطة الاقتصادية لسكان المنطقة المستهدفة. فالزراعات التي كان مقترحاً وجودها مثل القمح والشعير والقرع وغيرها لم تعد موجودة في الثقافة الاستهلاكية للمقيم، أو أن كلفة استيرادها باتت أدنى من كلفة زراعتها محلياً. كما أن العاملين في الزراعة في الجنوب يُقدّرون بما لا يزيد على 6.5% من إجمالي الأفراد العاملين في مختلف الأنشطة الاقتصادية، وهو ما يؤكد وجود تغيّر في النظرة إلى الزراعة كمصدر أساسي ووحيد للعيش.

رابعاً، احتساب كميات المياه المفترض وصولها. إذ تبلغ السعة القصوى للبحيرة نحو 220 مليون متر مكعب في أيام الهطولات المطرية الممتازة. لكن، عملياً، يمكن إتاحة 160 مليون متر مكعب من هذه الكمية فقط، فيما يبقى في البحيرة نحو 60 مليوناً لا يمكن التصرف بها عادة. ويستأثر مشروع الليطاني من القناة 800م بحصة تصل إلى 110 ملايين متر مكعب ــــ هي الكمية المطلوب نقلها سنوياً ــــ أي ما يعادل ثلثي المياه التي يمكن إتاحتها في البحيرة في حالتها القصوى. ويستدعي ذلك السؤال عن مصير المشاريع الأخرى القائمة على جر مياه النهر أو بعض روافده مثل مشاريع: توليد الطاقة الكهرمائية، مشروع ري البقاع الجنوبي، مشروع ري قرى شرقي صيدا ومشروع ري القاسمية. وعلى افتراض أن بعض هذه المشاريع يستفيد من وجود مصادر أخرى من ينابيع محلية، إلا أن التساؤل يبقى قائماً حول مدى قدرة البحيرة وكل الروافد المتاحة على تأمين كميات المياه المطلوبة للمزارعين في سنوات الشح التي لا تحمل كميات كافية من المياه؟ وما هي السيناريوات البديلة المتوفرة أو التي يمكن توفيرها؟ وهل يمكن قيام اقتصاد حقيقي في منطقة تعتمد على موارد أوليّة مؤقتة وغير موثوق بتوافرها دائماً؟

خامساً، احتساب كلفة الإنتاج. فمن المتوقع أن تصل كلفة المتر المربع من مياه الري إلى حوالى 60 سنتاً (هي عبارة عن تكاليف الصيانة والتشغيل)، في حال استطاعت مصلحة الليطاني ضخ كل كمية المياه المقررة (110 ملايين متر مكعب سنوياً). لكن هذه الكلفة يمكن أن تصل إلى نحو 1.2 دولار/ م3 في حال لم تستطع ضخ أكثر من 60 مليون متر مكعب سنوياً. هذا الرقم، وإن كان مقبولاً لكلفة مياه الشفة، إلا أنه غير مقبول بالنسبة إلى الري، وهو يعني أن من الأجدى للمزارع أن يستخدم البئر الخاصة به بدل استخدام المياه الواصلة من المشروع. لكن، في جميع الأحوال، وفي حال قررت الحكومة إعطاء المواطن مساهمة تنموية من كلفة المياه الواصلة، فإن هذا الأمر سيعني وجود دين سنوي يمكن أن يتراوح بين 20 و40 مليون دولار سيترتب على عاتق مصلحة الليطاني.

سادساً، تؤخذ على المشروع أيضاً أمور حيوية أخرى، منها: غياب دراسة الأثر البيئي والتي لم تحصل أبداً، غياب تسجيل استملاكات الأراضي التي حصلت في السجلات العقارية وغياب التعويضات الجدية في هذا المجال، ما سيؤدي لاحقاً إلى خلافات ودعاوى بين أصحاب العقارات والجهة/ الجهات المنفذة، ما يمكن أن يتسبب بتعطل الاستفادة الفعلية من المشروع.

سابعاً، يُتوقع أن يتم التسليم الأولي للمشروع مع نهاية العام الجاري. لكن لن يتم اختبار جاهزيته وفعاليته وكفاءته بالفعل لأن المتعهد سيرفض مسبقاً تخريب مشروعه باستخدام المياه الملوثة، وهو أمر منطقي. وتأخير التسليم النهائي لحين التأكد من انتفاء التلوث التام، يمكن أن يعني تأجيل التسليم لسنوات، الى حين إثبات صلاحية مياه البحيرة لاستخدامها في الري. بعدها، سيصبح المشروع بحاجة الى التأكد مجدداً من صلاحيته، وربما يكون وقتها قد أصبح في حاجة إلى عقود جديدة للصيانة والتشغيل.

في الخلاصة، تتبيّن الحاجة الماسّة لوجود مخطط توجيهي للمياه في كل لبنان، وفي المناطق المشمولة بمشروع الليطاني تحديداً كأولوية قصوى، يراعي حاجات الري وحاجات الشفة، ويوثّق بالخرائط والمعطيات مصادر المياه المتاحة وسيناريوات الاستخدام في أوقات الشح. وهناك حاجة أيضاً إلى إعادة دراسة استخدامات الأراضي في المناطق المستهدفة كما هي في الوقت الحالي، ووضع مخططات توجيهية محددة لهذه الأراضي تلحظ الاستخدام الزراعي باعتباره أولوية على التطوير العقاري. والمطلوب، أيضاً، سياسة زراعية على مستوى حكومي، تولي أهمية لمسائل التسويق والمواصفات وتوفر الدعم للمزارعين وتؤمن بدائل الإرشاد الزراعي والبذار والشتول، والأهم أن تراعي مسألة الأمن الغذائي لشعب مكشوف على الأزمات.