Site icon IMLebanon

أوقفوا هذه المهزلة!

كتب بيار أبي صعب في “الاخبار”:

يبدو أن مئات الصحافيين والصحافيات، الخميس في بيروت، ذهبوا وانتخبوا نقيبهم ومجلس نقابتهم! برافو. والله برافو. ليس برافو حاف، بل برافو ومبروك أيضاً! هذا دليل إضافي، دليل قاطع، إذا كان هناك من لا يزال يبحث عن أدلّة، على أن المهنة بألف خير. وأن قطاع الإعلام، وصناعة الصحافة، بألف خير. وأن «الديموقراطية» في لبنان بألف خير. هل نسيتُ شيئاً؟ نعم: أن الحقوق، والحريّات، والقواعد المهنية، ومؤشرات النموّ، كلّها بألف خير: محفوظة ومصانة ومحميّة ومضمونة… وإلى نموّ مضطرد ومزيد من التطوّر والازدهار والبحبوحة. أليس كذلك؟

هذا البلد كل ما فيه يشبه مسرحيّة هزليّة… تفضي إلى نهاية دراماتيكية. في الفصل الأخير ينهار كل شيء على رؤوس الجميع! هناك في لبنان، بين زملائنا وزميلاتنا العاملين في مهنة الصحافة، أو المحسوبين عليها زوراً وبهتاناً وسلبطة، من هم مقتنعون، ويحاولون إقناعنا، أنّهم شهدوا يوم الخميس على «عرس ديموقراطي»، هو انتخابات «نقابة المحررين». نفكّر تحديداً بالمجموعة التي نحترمها بينهم، ونثق بها ونعرف مهنيتها وتاريخها وأخلاقها وقيمها ونظرتها إلى المهنة ومستقبل لبنان والعرب. هناك من هو مقتنع بين هؤلاء أن بالإمكان الذهاب والاقتراع ودخول «المعركة الانتخابية» لإحياء جثّة هامدة كنقابة المحررين. نقابة عقيمة، منغلقة على العالم، معادية للتطوّر، مذعورة من الأجيال الجديدة، كارهة لها. «نقابة» مجرد ذكرها إهانة للمهنة ولكرامة العاملين فيها، مجرد وجودها يستدعي التشكيك بصدقيّة أهل المهنة كلّهم، ووعيهم وأدواتهم وإنتاجهم، وقدرتهم على الالتزام بهذه الرسالة السامية التي هي الصحافة. الصحافة، أي فنّ خدمة الرأي العام، ونشر المعلومات، وفهم الواقع، وكشف المسكوت عنه، ومحاسبة السلطة، ونقد آلياتها، وطرح النقاشات… باختصار صناعة الديموقراطيّة! كل هذه المومياءات والأصنام التي تحاصرنا، ولا أحد يدعوها إلى الانصراف، تريد منها أن تولّد الأفكار، وتخترع المستقبل، و«تصنع الديموقراطيّة»؟

ما هذه الانتخابات التي تركّب لوائحها في غرف نتنة، ولا تعلن إلا في الربع ساعة الأخير؟ ما الضرورة للشفافيّة أصلاً، والبرامج ومراعاة بديهيات الديموقراطيّة؟ فالقطيع سينتخب في النهاية بحسب كلمة السرّ، أو بحسب أهوائه ومصالحه. صحيح أن معظم النقابات في لبنان تنخره السوسة الطائفيّة إيّاها، وتحكمه العقليّة البائسة نفسها، على صورة السلطة السياسية ومثالها، على صورة النظام الطائفي المافيوي الذي قضى على البلد، وأخذه إلى الخراب والإفلاس. لكن هذا ليس مقبولاً من نقابة الصحافيين التي تقف في الطليعة، ويفترض أنّها تقود النخب وتضيء لها الطريق. على الأقل نقابة الصحافيين يجب أن تشكّل استثناء في لبنان، بل نموذجاً لما ينبغي أن تؤول إليه دولة المؤسسات. فإذا بها الأكثر تخلّفاً وانحطاطاً. ويأتي من يحاول أن يقنعنا بمشاريع «التغيير من داخل»، بسذاجة تصل حد العمى تارة، وبخبث ملؤه التكاذب السياسي الذي بات جزءاً من أخلاقنا الوطنية، تارةً أخرى. من يغيّر ماذا؟ وهل نستبدل بالسيء الأسوأ منه؟

محاصصات طائفيّة، وانتخابات على أساس جدول موصد، لا أحد في الدنيا، ولا حتّى ليلى عبد اللطيف، يستطيع أن يقول لك متى يفتح ومتى يغلق، وعلى أي أساس؟ «جدول»، هناك نسبة كبرى من الأسماء التي يضمّها لا علاقة لها بالصحافة، تراكمت هنا كالصدأ على مرّ تاريخ انحطاط هذا «الكيان» الغريب الذي اعتاش طويلاً على المحسوبيات والزبائنيّة والطائفيّة والفساد والجهل! شارك في «انتخابات» الأمس 587 مقترعاً ومقترعة، من أصل 727 مسجلاً ومسجلة دفعوا اشتراكاتهم. أي أن الجدول يضم ضعفهم: ما شاء الله! مع الاحترام للجميع – إذ لا أحد يملك حق إطلاق أحكام معياريّة – إذا كان في لبنان كل هؤلاء الصحافيين وكلّهم يعمل في الصحافة المكتوبة وحدها، فلماذا لم يخبرنا أحد؟ لا بد أن البلد الذي كان رائداً ذات يوم في الصحافة العربيّة، ينعم الآن بعشرات الصحف اليوميّة الواسعة الانتشار، ومئات المجلات والمطبوعات. ولا بدّ أن في لبنان مئات آلاف القرّاء! لكننا لا نراهم…

أضف إلى ما سبق أن جدول «نقابة المحررين» مشترك مع نقابة أصحاب الصحف التي تحمل اسم «نقابة الصحافة»! هل تتخيّلون قليلاً أي موقف عقيم، ومشبوه، هذا؟ الموظّف وربّ عمله في جدول مشترك. طبعاً «التشوّه الخلقي» له ما يفسّره تاريخيّاً، فمعظم أصحاب الصحف، كانوا ذات يوم صحافيين قبل أن يؤسسوا امبراطورياتهم الإعلاميّة. لكن عقوداً مرّت على البدايات الأسطوريّة، وبقي «سفاح القربى» هو القاعدة! نعم هناك أسماء كبرى في تاريخ النقابة، وصفحات مجيدة. لكنها تعود إلى «ما قبل التاريخ». لقد نسيناها. والجيل الجديد الذي يضيق به «الجدول» اللعين، لم يسمع بها غالباً. مذ خرج إلى «سوق العمل»، لم يعرف إلا الانحطاط، ولم يشهد إلا هذه المهزلة المضحكة المبكية التي تعيد إنتاج النظام اللبناني. كثيرون من الذين كانوا شهود زور على الانحطاط المديد، ومتواطئين معه، يأتونك اليوم ليرموا المسؤولية على عاتق «نقيب نصف القرن» المرحوم ملحم كرم، كأنّه هبط علينا من السماء، واستمر بفعل عوامل طبيعية خارقة! وكأن الأمور تغيرت جذريّاً من بعده.

انتخابات ماذا؟ في لبنان أغلقت أخيراً ثلاث صحف يوميّة وعشرات المجلات. وهناك عناوين أخرى للأسف على الطريق… ناهيك بصحف عربيّة أوقفت طبعاتها في بيروت التي كانت تشكّل محطة أساسيّة لها. هل كان العاملون فيها أعضاء في النقابة، وماذا فعلت لهم؟ لم يطرح أحد سؤالاً. لم تنظم ندوة. لم تنشر دراسة. لم يُرفع اقتراح باسم النقابة إلى الحكومة حول كيفيّة وقف هذا النزف، واستعادة القرّاء وتجديد الأدوات وتغيير أنماط الإنتاج…بس برافو يا شباب، برافو ومبروك. عدتم لنا بعد الجهد الجهيد بنقيب طيب ولطيف و«خدوم» كما نقول في لبنان، لكن ماذا سيتغيّر؟ ليست مسألة أشخاص، بل مسألة قوانين، مشكلة فساد وخلل وذهنية مريضة وبنى مترهلة تحكمها القاعدة السلطويّة القديمة. التشبّث بالسلطة ضمن لعبة التوازنات المذهبيّة والزواريب الضيّقة: الكرسي والمنصب والصندوق وعلاقات المصلحة والألقاب والامتيازات… على أنقاض المهنة، وأنقاض الوطن.

أما آن أن توقفوا هذه المهزلة؟ لنعمل على بناء نقابة حقيقيّة تكون حجر الأساس في انبعاث الصحافة اللبنانيّة، وتضم كل الإعلاميين والصحافيين والمحررين والمراسلين العاملين في مختلف قطاعات المرئي والمسموع والإلكتروني والورقي. فالمهنة ذاتها، والتحديات والحاجات والحقوق والأصول أيضاً. نقابة تديرها مرجعيات جديرة ومستقلة ومنوّعة، تتجدد دوريّاً، ويكون الانتساب إليها إلزاميّاً لممارسة المهنة، ومشروطاً بممارسة فعليّة للمهنة. نقابة تحمي حقوقنا الاجتماعيّة وكرامتنا وتحفظ التنوّع، وتدافع عن حريّاتنا، وتضمن صدقيّتنا، وتنظّف الطفيليات والفطريات التي أكلت المهنة، وتمنع التزوير والتجريح. نقابة تحاسب على التجاوزات والأخطاء، فتكون الحَكَم والسلطة المرجعيّة، وتحمينا من الاستعمالات السياسيّة القمعيّة للقضاء. تحرص على استقلاليتنا، وتلزمنا جميعاً بشرعة مهنيّة وأخلاقيّة. نقابة تسهر على الإعداد والتطوير والتدريب المهني والمناهج، ورأب الصدع بين الأجيال واستعادة ثقة الجمهور واهتمامه. نقابة تواكب خروج الإعلام اللبناني من الانحطاط واللامهنيّة والتضليل والتحريض والاحتيال والتزوير وضياع القواعد والمرجعيّات المهنيّة… إلى نهضته الجديدة.

الصحافة اللبنانية تموت بسبب انحطاطنا وتواطئنا وجهلنا أيّها السادة، وليس بسبب تحديات الزمن الرقمي التي يسهل رفعها والتأقلم معها، واتخاذها حافزاً على التطور والتجديد. لنوقف إذاً هذه المهزلة.