Site icon IMLebanon

“ميني إنهيار” في تشرين رَصدتهُ الأرقام

كتب أنطوان فرح في “الجمهورية”:

تعرّض الاتفاق الذي أُعلن عنه بين وزارة المال ومصرف لبنان لتمويل احتياجات الدولة للعام 2019، الى التشريح من قِبل أكثر من طرف، لكنّ أغرب ما قيل فيه، انّ الدولة رضخت للمصارف ووافقت على رفع أسعار فوائد الاقتراض.

سخّفت بعض المواقف والتحليلات التفاهم الذي توصّل اليه وزير المالية علي حسن خليل مع حاكم مصرف لبنان، الى مستوى التعاطي مع هذا الملف من زاوية تصوير الوضع وكأنّه مجرد «كباش» بين الدولة والمصارف، على اسعار الفوائد. لكن الواقعية تفترض الاعتراف بأنّه الخطوة الوحيدة التي يمكن ان تعطي بعض الثقة والامل، في وضع دقيق، تندُر فيه مؤشرات الثقة، وتتراكم يومياً مؤشرات سلبية تزيد منسوب القلق.

رغم انّ بعض تفاصيل الاتفاق لم تتضح بعد، للبناء عليها في قراءة خلفيات ما جرى، لكن ما هو واضح في الاتفاق، يكفي لتسجيل الحقائق التالية:

اولاً: تأمين احتياجات الدولة المالية للعام 2019، وهذه اشارة ايجابية في حدّ ذاتها، وتقطع الطريق على مخاوف كانت قائمة في شأن قدرة الدولة على الاقتراض لضمان استمراريتها والوفاء بالتزاماتها.

ثانياً: انّ معدل أسعار الفوائد التي ستُعتمد لإقراض الدولة، (10.5%)، لمدة طويلة تُعتبر مخفّضة، قياساً بالاسعار الواقعية للفوائد المتداولة في السوق المحلي. ومن الغريب انّ من ينتقد اليوم سعر الفائدة الذي حصلت عليه الدولة، هو نفسه من كان ينتقد بالامس، تحقيق المصارف للأرباح من خلال دفع اسعار فوائد على الودائع ومن ثم إقراض المال للدولة بهامش ربح بين 100 و 200 نقطة. فهل يمكن القول حالياً، انّ هذا الأمر تحقّق للمصارف؟ وهل تربح المصارف اذا كانت تدفع اكثر من 15% فوائد على الودائع المجمّدة بالليرة لمدة 5 سنوات، في حين انها تُقرض الدولة بفائدة 10% لمدة 10 سنوات أو أكثر؟

ثالثاً: انّ الطريقة التي صيغ فيها الاتفاق، تعني انّ حاكم مصرف لبنان الذي يسير حالياً بين الالغام، ويدرك دقّة الوضع المالي، يحاول ان يوزّع المخاطر بين الاطراف الثلاثة، التي تتقاسم عملياً هذه المخاطر (مصرف لبنان، المصارف التجارية والمودعون). ومن هنا، جاء الاقتراح بالسماح للمصارف بالاكتتاب في سندات الدين التي ستصدرها الدولة اللبنانية، بالاموال نفسها التي يقترضها مصرف لبنان من المصارف بفائدة 10.5%. وتهدف هذه الخطوة، الى عدم تكبير حصّة مصرف لبنان من الدين العام، بعدما وصل الى نسبة مرتفعة جدًا، ولا يمكن تكبيرها أكثر، خوفاً من ردود الفعل السلبية للمؤسسات الدولية حيال هذا الامر.

باختصار، ولأنّ الجميع (الدولة، المركزي، المصارف والناس) على متن مركب واحد، يحاول حاكم مصرف لبنان توزيع الأثقال على الجميع، بحيث لا يؤدي التثقيل على جهة واحدة من أساسات البناء، الى انهياره، فيقع على رأس الجميع.

في هذا السياق، المعادلة بسيطة، في السنوات الأخيرة، كانت كتلة الودائع في المصارف، وهي من الأكبر في العالم قياساً بحجم الاقتصاد (تساوي حوالى 4 أضعاف الـPIB) تنمو بنسبة تكفي لتمويل الدولة والقطاع الخاص. بل انّها كانت تفيض احياناً عن الحاجة، فيتكوّن احتياطي اضافي، كان يُفترض استخدامه في عمليات تمويل المشاريع المشتركة بين القطاعين العام والخاص (قانون الـPPP).

هذه البحبوحة بدأت بالتراجع منذ 5 أو 6 سنوات، وهو تراجع تراكمي ومضطرد، بحيث وصلنا في الـ2016، الى ظروف بدت صعبة، واضطر مصرف لبنان الى القيام بهندسات مالية، جذب من خلالها اموالاً اضافية من الخارج.

اليوم، أصبحت الأوضاع أصعب بكثير، وكتلة الودائع التي تشكّل ثروة لبنان واللبنانيين، باتت موزعة في نسبة كبيرة منها كقروض للقطاعين العام والخاص. وهذا التوزيع يشمل قروض مصرف لبنان للدولة. وسواء سُجّلت القروض على المصارف التجارية، ام على البنك المركزي، فانّها في النتيجة تأتي من مصدر واحد (الودائع). وعلى الورق لبنان غني بوجود حوالى 180 مليار دولار كودائع، لكنه فعلياً في مأزق، لأنّ هذه الودائع باتت في قسم كبير منها ديوناً مشكوكاً في تحصيلها. فالدولة عاجزة عن رد أصل الدين، وفي أحسن الحالات تستطيع ان تستمر في دفع الفوائد على هذا الدين لفترة معينة، والقطاع الخاص سيصبح بدوره في وضع صعب وستكون نسبة من القروض الممنوحة له موضع شك في تسديدها، بسبب الجمود الاقتصادي التام الذي بات مسيطراً في هذه المرحلة.

أما الرهان على استمرار نمو الودائع بنسبة تكفي للصمود، فأصبح في غير محله. وأقصى ما نتمنّاه حالياً، هو عدم الانتقال الى النمو السلبي، بسبب احتمال خروج ودائع من لبنان. وقد جاءت أرقام ميزان المدفوعات لتغذّي هذه المخاوف، اذ تبيّن انّ العجز في هذا الميزان، ووفقاً لبيانات البنك المركزي، وصل حتى تشرين الاول 2018، الى 5.62 مليارات دولار مقارنة بعجز قدره 1.07 مليون دولار خلال الفترة نفسها من العام 2017. وقد تراجع صافي الأصول الأجنبية (BDA) في المصرف المركزي بمقدار 1.30 مليار دولار، وتراجعت الاصول في البنوك التجارية 4.31 مليارات دولار في حلول تشرين الاول 2018.

لكن الغريب والمُقلق، هو ما حصل في شهر واحد، (تشرين الاول) اذ سجّل ميزان المدفوعات عجزًا شهريًا بقيمة 1.81 مليار دولار. وقد انخفض إجمالي حجم الودائع في مصرف لبنان 373.9 مليون دولار، وبمقدار 1.43 مليار دولار في البنوك التجارية.

وكان ميزان المدفوعات سجّل عجوزات بقيمة ملياري دولار في 2011، و1.5 مليار دولار في 2012، و1.1 مليار دولار في 2013، و1.4 مليار دولار في 2014، و3.3 مليارات في 2015، ليحقّق فائضاً تراكمياً في العام 2016 بقيمة 1.2 مليار دولار.

في قراءة أرقام العجز في ميزان المدفوعات، هناك احتمال تسرّب لبعض الودائع الى الخارج. كما انّ نتائج تشرين الثاني وكانون الاول 2018، قد تكون اسوأ، بسبب استمرار تراجع منسوب الثقة. لبنان لا يحتمل تراجع نمو الودائع أكثر، فكم بالحري اذا وصلنا الى مرحلة انسحاب ودائع ونموٍ سلبي؟