كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
في 11 ايلول 2001 تلقّت الولايات المتحدة الأميركية ضربة إرهابية هائلة حفرت عميقاً في الوجدان الأميركي وبات طيفها موجوداً في مراكز صنع القرار الأميركي.
ومنذ ذلك التاريخ تبدّد الوهم الذي كان قائماً بأنّ الداخل الأميركي محصّن ومنيع على الأحداث المرعِبة التي كانت تجول بلدان العالم، وكانت الإدارات الأميركية تستثمرها لتحقيق المصالح الأميركية في العالم.
ومع الاجتياح الأميركي للعراق بدأت مرحلة وضع الشرق الأوسط على المشرحة وإعادة ترتيب أوراقه وفق المصلحة الأميركية واستناداً الى دروس ضربة 11 أيلول.
ومع تعثّر الجيش الأميركي في العراق نتيجة القراءة المبسّطة لتعقيدات الشرق الأوسط، صدر تقرير بايكر – هاملتون عام 2006 والداعي الى الانسحاب من التدخّل المباشر في الشرق الأوسط.
وبعد فترة وجيزة تمّ انتخابُ باراك أوباما رئيساً للبلاد، حاملاً معه أسلوباً مختلفاً لمعالجة الشرق الأوسط وحفظ المصالح الأميركية، وارتكزت سياسته على نقطتين اساسيتين الاولى تتعلق بالانسحاب الآمن من التدخل المباشر في الشرق الأوسط.
والثانية، الانفتاح والتعاون مع الإسلام المعتدل، أو بتعبير أوضح ما عُرف لاحقاً بفتح الطريق امام وصول «الإخوان المسلمين» الى السلطة عن طريق ما عُرف يومها بـ«الربيع العربي».
لكنّ «شق بطون» الساحات العربية والذي بدأ عام 2010 وإطلاق يد «الإخوان المسلمين» فتح الطريق أمام حرّية الحركة لتنظيماتٍ اكثرَ تطرّفاً وكانت الفوضى، ما دفع بإدارة أوباما الى وقف مسلسل «الربيع العربي» عند أبواب الجزائر. وجاء الانفجار السوري ليهدّد خروج الاوضاع في الشرق الأوسط كله عن السيطرة.
ومع وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض بدأت العودة الى الأنظمة العسكرية سبيلاً وحيداً لحفظ المصالح الأميركية وتحقيق دروس 11 أيلول.
في اختصار الهزّات الكبيرة في الشرق الأوسط تكاد تشارف على الانتهاء، لكنّ تغييرات هائلة قد حصلت وأدّت الى معادلاتٍ مختلفة وشرقِ أوسط مختلف.
فروسيا أصبحت تُمسك بإحكام بمفاصل اللعبة العسكرية والسياسية في سوريا وتمدّد نفوذها القوي الى بلدان اخرى.
وأقامت موسكو علاقات جديدة من ليبيا الى الخليج العربي، كذلك عزّزت نفوذها إنطلاقاً من دورها في سوريا ليشمل إسرائيل وإيران وقطر والسعودية وتركيا، واصبح الكرملين وجهة الزعماء السياسيين، وعلى سبيل المثال شكّلت زيارة الملك السعودي لروسيا الحركة الأولى الخارجية له، إضافة الى كونها أوّلَ زيارة لملك سعودي الى روسيا.
كذلك زار أمير قطر ووليّ عهد أبو ظبي وآخرون الكرملين بعدما كانت منطقة الخليج تتمتع بحصرية العلاقة الدولية مع واشنطن.
وعلى سبيل المثال أيضاً فإنّ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو اضطر الى الإعلان للقيادة الروسية التزام حكومته أن تبقى عملية «درع الشمال» في اطار ضيّق ومحدّد وداخل الحدود وذلك قبل انطلاقها.
في الشرق الاوسط توسّعٌ للنفوذ الإيراني على رغم الموقف الرسمي الأميركي بالعمل على الحدّ منه ورفع مستوى الضغط لإنجاز تفاهم سياسي مع الإيرانيين.
وحتى اللحظة تبدو إدارة ترامب واثقة من أنّ إيران ستخضع للضغوط الاقتصادية الهائلة التي تمارسها واشنطن وأنها ستجلس للتفاوض في مدة أقصاها شباط المقبل.
لكن في المقابل تقول المصادر القريبة من الجناح الإيراني المتشدّد إنّ قراراً قد اتُخذ بعدم التفاوض مع الأميركيين مهما بلغت الضغوط.
وفي مقابل التمدّد الإيراني والذي بلغ الحدود السعودية من خلال الحوثيين في اليمن، ظهرت السعودية بصورة جديدة تحاكي المواجهة مع إيران اصبحت هجومية وباشرت في تنظيم تحالف إقليمي لمواجهة إيران سيشمل إسرائيل في انقلاب كامل للتوازنات السابقة وتولّى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التزامَ النهج الجديد.
لكنّ أزمة قتل جمال خاشقجي أحرجت وليّ العهد السعودي اضافة الى الرئيس الاميركي، ووفق أحد خبراء السياسة الاميركية فإنّ تاريخ العلاقات الاميركية ـ السعودية شهد ثلاثة مفاصل حاسمة:
ـ الاول عام 1983 مع قرار الملك فيصل بوقف تدفّق النفط السعودي الى الولايات المتحدة الأميركية وبعد فترة قتل الملك على يد قريبه.
ـ الثاني مع هجمات 11 أيلول الإرهابية وعلاقة بعض السعوديين إضافة الى المدارس الدينية بالعملية الإرهابية.
ـ الثالث مع مقتل جمال خاشقجي والتداعيات الهائلة التي نجمت من ذلك.
ويكفي أن يضع هؤلاء الخبراء قضية خاشقجي في مستوى قطع النفط وضربة 11 أيلول لإدراك مدى النزاع الحاصل داخل الولايات المتحدة الاميركية والذي يطاول إدارة ترامب.
وتكفي الاشارة الى اندفاعة «الديموقراطيين» داخل الكونغرس بالتوافق مع عدد من رموز الحزب الجمهوري حول إعادة النظر في صفقات السلاح الى السعودية.
ويتّجه الكونغرس الى إلغاء صفقات السلاح ذات الطابع الهجومي والإبقاء على الأسلحة ذات الطابع الدفاعي من خلال مقاربة إنهاء الحرب في اليمن.
والمشكلة أنّ الأسلحة الهجومية هي التي تدرّ ارباحاً هائلة بخلاف الأسلحة الدفاعية والتي تحظى بهامش ربحي غير مرتفع، ما يعني إغضاب قطاع صناعة السلاح الركيزة الاساسية في معركة التجديد لترامب وليست هذه المصيبة الوحيدة له في معركة التجديد له.
فالأرقام الاقتصادية الممتازة والتي شكّلت نقطة القوة الاساسية لترامب تبدو مهدَّدة. فصندوق النقد الدولي توقّع فترة تباطؤ تدريجي للنموّ الأميركي سنة 2019 مقارنةً بالسنة الحالية مع تراجع الحوافز الضريبية والمالية التي تقدّمها لها الإدارة. وكذلك توقّع الصندوق ازدياد التباطؤ عام 2020 الذي ستجرى في نهايته الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وفيما يتّجه السيناتور الديموقراطي عن ولاية فيرمونت بيري ساندرز لخوض الانتخابات الرئاسية مرة جديدة، لم يخفِ نائب ترامب جو بايدن طموحه لخوض الانتخابات الرئاسية كبديل عن ترامب حيث اعتبر نفسه الأكثرَ تأهيلاً لرئاسة بلاده.
وبالعودة الى الشرق الأوسط فإنّ عاملاً جديداً اضافياً دخل الى المعادلة الجديدة وهو على الارجح سيبقى لفترة طويلة وفق حجمٍ محدَّد والمقصود هنا تنظيم «داعش».
وفي محاضرة مشتركة في نيويورك لمديرَين سابقين للمخابرات المركزية الاميركية cia وهما الجنرال مايكل هايدن وجورج تينيت، أدارها السفير دينيس روس، قال هايدن «إنّ تهديد الهجمات الفتاكة الفردية سيبقى قائماً لمدة طويلة». واضاف: «خوفي الأكبر هو أنه مع سياسة «أميركا أولاً» سنصبح في النهاية لوحدنا إذا استمرّ هذا النهج طويلاً».
أما تينيت الذي كان رئيس cia خلال حصول هجمات 11 أيلول فقال إنّ القرار الأميركي بالانسحاب من الاتّفاق النووي الإيراني يشكّل ضربةً للعلاقات الأميركية المتعدّدة الأطراف، ذلك انّ الاتفاق كان نجح في تأخير حصول إيران على الاسلحة النووية ثماني سنوات وردع اندلاع حرب، إلّا أنه سمح لإيران في بناء قدرتها الحربية التقليدية وتشكيل تهديد اكبر على الحدود الشمالية لإسرائيل. وأضاف «أنّ المنطقة دخلت الآن مرحلة خطيرة جداً».
وفي نظرة سريعة الى خريطة المنطقة تقول التقارير إنّ تنظيم «داعش» نجح في تركيز قواعده وسط وجنوب سيناء بعدما نجح الجيش المصري بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية في الإمساك بشمال سيناء فقط.
وتقدَّر أعداد عناصر داعش بنحو الفي عنصر تتعاون معهم القبائل و»الاخوان المسلمين» وهو ما يعني فتح ابواب الإرهاب «ظرفياً» في مصر والخليج.
وفي الصحراء بين سوريا والعراق توجد قواعد لـ»داعش» لديها امتداداتُها من العراق الى سوريا ولبنان والأردن وهي جاهزة للاستخدام عندما تتطلّب المشاريع السياسية ذلك.
واشنطن قلقة من التطورات الداخلية في إسرائيل والغالبية الضيقة لحكومة نتنياهو ما يجعل طرح «صفقة العصر» محفوفة بالمخاطر، تعتقد أنها قادرة على ضبط روسيا من خلال اقتصادها الضعيف والذي لا يستطيع كثيراً تحمّل أوزار تدخّلها في سوريا.
وأما الاقتصاد الإيراني فهو صعب وبالكاد يتنفّس ما يحول دون مساعدة الرئيس السوري مستقبلاً.
إزاء كل هذه الصورة الشرق أوسطية لا بدّ من أن يقلق اللبنانيون، ذلك أنّ لبنان تفصيل ولا أحد يهتم بالتفاصيل، ما يجعله مكشوفاً الى حدٍّ ما.
اللافت ما نشره «معهد واشنطن» عن استطلاع رأي أجرته مؤسسة متخصّصة وذات صدقية في لبنان. في هذا الاستطلاع 53% من اللبنانيين لديهم وجهة نظر غير إيجابية تجاه «حزب الله» مقابل 47%.
وحول النظرة الى علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية فإنّ 50 % من السُنّة أيّدوها في مقابل 11% من الشيعة، والمفاجأة كانت عند المسيحيين بـ38% فقط.
وحول علاقات جيدة مع روسيا فإنّ 92% من الشيعة أيّدوها في مقابل 28% من السُنّة و53% من المسيحيين.
وفيما حاز التأييد لترامب 36% من السُنّة. 3% من الشيعة و23% عند المسيحيين، فإنّ الرئيس الروسي حاز على 85% عند الشيعة و13% عند السُنّة و41% عند المسيحيين. فيما حاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ثلثي السُنّة و7% من الشيعة و50% عند المسيحيين.
لكنّ الأهم أنّ الاستطلاع الذي أُجريَ في تشرين الثاني الماضي وجد جامعاً وحيداً لدى اللبنانيين على أنّ ما تقوم به السلطة لمحاربة الفساد ضئيل جداً، وذلك بنسبة 95%. وقد يكون هذا هو الباب الذي قد يهزّ الاستقرار الداخلي اللبناني طالما أنّ لبنان تفصيل في ورشة الشرق الأوسط الهائلة.