من أمام المقرّ الذي يُجسّد «السلطة المالية»، أي مصرف لبنان، إلى أمام مقرّ السلطة التنفيذية، انطلقت أمس تظاهرة يمثّل المشاركون فيها اللبنانيين المُتضررين من سياسات الاقتصاد الريعي، والمُثقلين بهمّ الانهيار الاقتصادي الذي سيُلقى على عاتقهم وحدهم. الغطاء السياسي للتظاهرة، وفّره الحزب الشيوعي والتنظيم الشعبي الناصري وكلّ التنظيمات الوطنية، مع الرهان على أن تتوسّع المروحة لتشمل جميع المتضررين وتُصعّد التحركات، وصولاً إلى العصيان
التحركات الشعبية هي «أوكسجين» الحزب الشيوعي اللبناني، ولا سيّما حين يكون الوطن مُهدّداً. لذلك، ليس غريباً أن تكون قيادة الوتوات (الحزب الشيوعي)، هي المُبادرة إلى وضع بنود أولية لورقة اقتصادية «إنقاذية»، وصاحبة الدعوة أمس لتظاهرة انطلقت من أمام المصرف المركزي في الحمرا، وصولاً إلى ساحة رياض الصلح. لكنّ اتخاذ «الشيوعي» للخطوة الأولى، لا يعني أنّ الساحة كانت ساحته وحده. قوى حزبية ونقابية ومدنية وثقافية، فضلاً عن مواطنات ومواطنين من خلفيات مناطقية وحزبية متنوعة، شاركت الحزب الشيوعي أمس صرخته: «إلى الشارع للإنقاذ… في مواجهة سياسة الانهيار». صرخةٌ من نوعٍ آخر، رفعها المقاوم جورج إبراهيم عبد الله، الذي كان حاضراً أيضاً. من زنزانته في السجن الفرنسي، حثّ الرفاق على المُشاركة في التظاهرة، من خلال تسجيل رسالة صوتية بُثّت ليلة السبت. ويوم أمس، حُملت لافتة كبيرة عليها صورته وكلمات: «دوافع الانتفاض محفورة في آليات الإفقار والتهميش».
إلى جانب الأمين العام لـ«الشيوعي» حنا غريب، والأمين العام السابق الدكتور خالد حدادة، وقف «الرفيق» (كما ناداه غريب) النائب أسامة سعد. تشابكت أياديهم، قبل أن ينضمّ إليهم زياد الرحباني، ويسيروا باتجاه «رياض الصلح»، من دون أن يتقدموا هم المسيرة. كان قد سبقهم مئات المتظاهرين، بصرخاتهم وأعلامهم وراياتهم الثورية، وخلف «القيادة» كان مُلبّو النداء كُثراً. «الصراع صراع طبقي… مش رح نبقى عبيد»، هتف الناس.
عدد المشاركين كان لافتاً. صحيح أنّه لا توجد إحصائيات دقيقة، لكن يُمكن أيَّ مواكب لتحركات «الشيوعي» السابقة، أو تلك التي كانت تدعو إليها التنظيمات «المدنية» الأخرى، ملاحظة أنّ الحشد في الشارع كان أكبر من المرات السابقة. السبب بسيط، يتعلّق بأنّ الفئات المهمَّشة والمتضررة من النظام الحالي وأبناء الطبقة الوسطى، أمام خطر حقيقي يتمثّل بأنهم سيتحملون تبعات الانهيار في البلد، وسياسات الاقتصاد الريعي. والأهمّ أنّ تحرّك أمس لن يكون يتيماً، كما وعد غريب، «هي خطوة أولى تليها خطوات في خطة تحرك متصاعدة على مستوى المناطق ابتداءً من يوم غد باتجاه تصعيد التحرك فيها، وعلى المستوى المركزي. فخلق كتلة شعبية ديمقراطية منظمة، وذات قيادة وبرنامج لتغيير موازين القوى، هدف رئيسي».
في ساحة رياض الصلح، نعى النقابي غريب اقتصاد البلد، الذي «لم يعد بعيداً عن انهيار وشيك». ورغم ذلك، تُكابر رموز النظام، عبر «الاستمرار في النهج عينه من خلال تنفيذ مقررات مؤتمر باريس 4 (سيدر)، بفرض ضرائب غير مباشرة عبر رفع الدعم عن الكهرباء، وخفض التقديمات للصناديق ومعاشات التقاعد ونظام التقاعد على موظفي الدولة، وتحجيم القطاع العام، وصرف متعاقدين، وزيادة خمسة آلاف ليرة على صفيحة البنزين، وزيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15%، وفرض الخصخصة لمرافق الدولة، وعبر الاكتتاب بسندات الخزينة بفوائد مرتفعة. وكلّ ذلك لزيادة أرباح المصارف واغتناء الطغمة الحاكمة من مراكمة الريوع والعمولات والنهب المتمادي للمال العام، مع التهديد الدائم بانهيار سعر صرف الليرة».
صرخ غريب بكلّ ما أوتي من قوة، حتى بُحّ صوته: «تعالوا للإنقاذ في مواجهة سياسة الانهيار. اخرجوا أيها اللبنانيون من متاريس الطوائف إلى رحاب الوطن وأسقطوا مقررات باريس 4 في شوارع بيروت كما سقطت في شوارع باريس، فالتحالف الحاكم وتعليمات صندوق النقد الدولي وراء الانهيار الوشيك لاقتصاد البلد». أعاد ذِكر الاقتراحات التي نصّت عليها ورقة «الشيوعي» الاقتصادية، داعياً إلى الاعتصام أمام «منازل الرؤساء الثلاثة ومسؤولين رسميين أساسيين، وأمام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ونقابة مستوردي الأدوية، ووزارة العمل…». إضافةً إلى التنسيق «مع أوسع القوى السياسية والنقابية والمدنية من أجل الاتفاق المشترك على تنظيم يوم وطني من أجل الكهرباء، والعمل الجاد على إنشاء «محكمة شعبية» من أجل إجراء تحقيق شفّاف في عمليات النهب المنظّم، ويكون من ضمن أهداف المحكمة، إلزام المصارف بإعادة الأموال المنهوبة (من جراء الهندسات المالية) أو بتحويلها إلى أسهم تعود ملكيتها إلى الدولة».
من أجل تحقيق هذه الأهداف، طلب غريب من الأحزاب والحركات العقائدية غير الطائفية، إلى المشاركة في «حوار حول سبل بناء التعاون أو التحالف حول ما يجمعها من مواقف مشتركة، على أن يجري التوافق على وضع المسائل الخلافية الأخرى جانباً، على الأقل في المدى المنظور، من أجل تعزيز فرص تشكيل كتلة شعبية جماهيرية، حتى لا تبقى إدارة الأزمة محصورة في تحالف القوى المتنفّذة داخل السلطة وكبار الرأسماليين، فيدفع شعبنا الثمن. فليتداعَ المشاركون في التظاهرة إلى لقاء موسع يوم الجمعة المقبل لتصعيد التحرك، وصولاً إلى العصيان المدني، فإما أن يلغى الدين العام أو الرحيل».
الكلمة الثانية، ألقاها النائب أسامة سعد، قائلاً إنّ «كلّ المواطنين يعانون من النتائج الكارثية لسياسات الحكومات المتعاقبة منذ الطائف حتى اليوم، ومن نظام الزبائنية والمحاصصة الطائفية. وشهداء المقاومة من كل الأطياف لم يستشهدوا إلّا من أجل تحرير الوطن وكرامته ومن أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. ولكن ما هو واقعنا الآن؟ قهر اجتماعي يعاني منه كل لبنان، عجز وفشل في إدارة ملفات الدولة». وأضاف أنّه «بعد كل هذه التضحيات التي قدمها شعبنا، سلطة طائفية ومذهبية، أفقدت البلد حصانته الوطنية ووحدته الوطنية، وأضعفت قدرة لبنان على مواجهة التحديات والمخاطر».
وضع سعد الأمور في إطارها الصحيح: «الأزمة السياسية التي يتحدثون عنها هي أزمة النظام اللبناني، وليست أزمة تشكيل حكومة». لكنّ استمرار الفراغ «لا يُنتج إلّا مضاعفة المخاطر على كل الأصعدة. نُطالب بتشكيل الحكومة، ليس لأننا نتأمل منها شيئاً، ولكن لأنها هي مؤسسة من مؤسسات الدولة، رغم أنّني لن أمنحها الثقة».
ووصف سعد تظاهرة أمس، بأنّها «تعبيرٌ عن نقمة شعبية عامرة، وعن تمرد شعبي ضد واقع لم يعد بالإمكان احتماله، وهي خطوة متجددة من أجل أن تستعيد الحركة الشعبية والشبابية دورها». ودعا سعد كلّ المتضررين من السياسات الحكومية إلى «التحرك بمختلف الأشكال والأساليب الديمقراطية، وخوض معركة التغيير من أجل الإصلاح السياسي وإلغاء الطائفية، ومن أجل الإصلاح الاقتصادي والمالي وبناء الاقتصاد المنتج».