كتب وسام سعادة في صحيفة “المستقبل”:
تتعثّر بريطانيا في تأمين مسار مُريح لا يعود عليها بالمضاعفات الثقيلة من بعد خروجها من الاتحاد الاوروبي، الذي لم تنخرط فيه عضوياً من الأساس، إلّا بمزيج من الحساسية والتردّد. تفلت مع ذلك رئيسة وزرائها تيريزا ماي من طرح الثقة بها. الحالة البريطانية تظلّ مضبوطة ضمن المؤسسات.
الحالة الأميركية أيضاً. رغم حدّية التنافر بين دونالد ترامب والاجهزة، والآن على ما يظهر بعد الانتخابات الاخيرة، بين الكونغرس والرئيس، إلّا أن المؤسسات الاميركية لا تزال تضبط والى حد بعيد دينامية الصخب والتنازع هذا.
ليس هذا الحال في فرنسا. تترنّح الجمهورية الخامسة لأسابيع، وبعد خسمين عاماً على انتفاضة أيار 1968 تأتي هذه الموجة الاحتجاجية مختلفة تماماً في نمطها وشكلها، لكنها الموجة الأكثر نوعية في هذا النصف قرن. تتحوّل حركة “السترات الصفر” الى حديث الكوكب. يوحي رئيسها إيمانويل ماكرون بما من شأنه مراجعة خياراته المعتمدة اقتصادياً واجتماعياً، من دون أن يغادر منطقة الالتباس، إنما ليتكلّم بوضوح عن مسار تراكمي من الأخطاء عمره أربعون عاماً في بلاده. يُظهر الحراك مشكلة تتجاوز فرنسا، وهي أن النظم في العالم كله، أمام وقائع “عدم قابلية المجتمعات”، إلى حد كبير، لأن تكون محكومة.
أما ماكرون، فأظهر في كلمته المشكلة الموازية: إذا فرضت الضريبة على الثروة تهرب الثروة من البلد، وأذا فرضتها على الاقل دخلاً، على العمل والاستهلاك، يتصدّع التماسك المجتمعي أكثر فأكثر، وتخرج الامور عن كل تأطير مؤسساتي، بل تتخطّى السلمية. إذاً ما العمل؟ كلّ يطرح مقترحاته عبر العالم، لكن كل هذه المقترحات لا تشبع الموضوع. تبقى الاشكالية تفرض نفسها: رأس المال صار طليق الحركة أكثر من أي وقت سابق، فكيف ضبطه، والمجتمعات الغربية التي اعتادت على التحسن المتواصل، سنة بسنة، لحياتها، دخلت في العشرية الاخيرة فترة ركود بل تراجع على صعيد المعيشة وظروف الحياة، وبخاصة فرنسا.
سواء في أميركا أو في روسيا، كثُر الذين تناولوا الاحداث بفرنسا بشماتة وفوقية، بمن فيهم ترامب.
مع هذا، يصعب للمرء أن يستشرف أين يحطّ عنصر الخلخلة، المنفجر في الميدان، المرة القادمة. في نهاية الامر، ما عبّر عنه ماكرون من مأزق، هو مأزق يطرح نفسه في كل بلد بطريقة، لكنه في كل مكان تقريباً المأزق نفسه: اتّساع الفارق بين المساواة القانونية والسياسية وبين اللامساواة الاجتماعية والفعلية، واتّساع التداخل بين مشكلة متّصلة بالعقود الاجتماعية وقابلية المجتمعات لأن تكون محكومة بدعائم متينة، وتأطير مؤسساتي منهجي للمشكلات السياسية، وبين صعوبات إعادة ترشيد السياسات الاقتصادية والمالية الدولية، ولمختلف البلدان، بالشكل الذي يقيم بالفعل سداً حيوياً ومنيعاً امام موجات الخلخلة القادمة، والمتصاعدة، هذه الموجات التي تطرح نفسها متّصلة بأسئلة الهوية هنا، وبلقمة العيش هناك، وبالأسعار والأجور والأرباح هنا وهناك، لكن تبرز رأساً الاختلافات في القدرة على الانتظام المؤسساتي وتخفيف غلواء التصادمات بقوة المؤسسات، وبوجود تفاهم على الاحتكام اليها. وحيثما تخرج الامور الى الشارع، كما في فرنسا، وربما ثمة مشهد واعد له اعتبار آخر في المجر في الايام الاخيرة، فهذا يعني ان هناك تصدّعاً في قدرة المؤسسات الدستورية على تأطير المشكلات السياسية والحيويات الاجتماعية حتى في بلدان الاتحاد الاوروبي.
طبعاً حالة فرنسا تختلف كثيراً عن حالة المجر هنا. ليس هناك تهديد عميق للديموقراطية في فرنسا، ورغم كل كارثية خطاب اليمين المتطرف الفرنسي إلا أنه لا يُشكّل تهديداً لهذه الديموقراطية، هو الذي صار مدمناً للمنظار الانتخابي لحركته أكثر من اي يمين متطرف آخر. في المقابل، مفهوم الديموقراطية نفسه أدركه الكثير من التصدّع في بلدان شرق اوروبا المنضمّة الى الاتحاد الاوروبي، وخصوصاً في المجر، التي يقوم فيها فيكتور اوربان بحركة ارتدادية على منطق الفصل بين السلطات، وعلى تداول السلطة، وعلى الحريات العامة والخاصة، وعلى الحريات الاكاديمية، كل هذا ودولته جزء من الاتحاد الاوروبي، وثمة عناصر في هذا الاتجاه ايضاً ببولونيا، وبدرجة أقلّ في رومانيا وبلغاريا ودول البلطيق.
أمام كل تحديات الخلخلة الاجتماعية والميدانية في موجتها الحالية في الغرب، لا تعود مشكلة تعطّل لعبة المؤسسات الدستورية لبنانياً يتيمة دهرها، بل جزءاً من مشكلة شاملة، يقدّم النموذج اللبناني حالة متقدمة لها: حالة، تعطّل حسابات التغلّب واللاتوازن في البلد كل تفكير بالاحتكام الى اللعبة المؤسساتية الدستورية، أحياناً بحجة الميثاقية، وأحياناً من دون أي حجّة إلا إرادة المستقوي. في الوقت نفسه، تعطّل اللعبة المؤسساتية لا يؤدي الى إطلاق العنان لديناميات اجتماعية موازية، بل لتشوّه هذه الديناميات بمجرد ما أن المنخرطين فيها يكابرون على وقائع التغلّب الفئوي القائمة، إن لم يتماهوا معها.
نحن في عالم باتت البلدان كلها أمام اختبار لاستقرارها في هذه الايام، وكلّ يتفاعل مع هذا الاختبار بحسب معيارين، مدى متانة وراهنية مؤسساته الدستورية واللعبة المقوننة ضمن هذه المؤسسات، وشكل التفاعل بين الحيويات الاجتماعية وبين القدرة الاستيعابية للعقد الاجتماعي القائم. أن يكون اللبنانيون مهتمّين بتتبع ما يحصل في فرنسا واميركا وبريطانيا، هذا ممتاز. أن يُبالغوا في الفصل بين مشكلاتنا ومشكلات هذه البلدان، هذا لا يُساعد كثيراً. بالعكس، المطلوب الإدغام، قراءة الازمة اللبنانية كحالة متقدّمة ممّا سمّاه فرنسيس فوكوياما قبل سنوات حالة “تصدّع النظام السياسي”، ويقصد عموم الأنساق القائمة على امتداد العالم، هذا التصدّع الذي بدأ مع موجات الربيع العربي، لكنه يظهر الآن أكثر فأكثر أنه يتنقّل من بلد الى آخر.