كتب خيرالله خيرالله في صحيفة “المستقبل”:
في وقت تشرف السنة 2018 على نهايتها، يظهر أنّ حال الضياع تعمّ العالم أكثر فأكثر. لم تعد هناك قواعد تتحكّم لا بما يدور داخل الدول نفسها ولا بالعلاقات في ما بين الدول. لكنّ الأخطر من ذلك كلّه، على الصعيد الإقليمي، هو ظهور مدى قدرة الميليشيات المذهبية على التحكّم بمصير دول عربية معيّنة في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني.
في العام 2017 تكرّس وجود الميليشيات المذهبية التي تدور في فلك إيران في غير دولة عربية. في العراق وسوريا ولبنان واليمن. يمثّل العراق مثلاً صارخاً على الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني وذلك في ضوء الاجتياح الأميركي للبلد في العام 2003، في عهد جورج بوش الابن، وتسليمه العراق على صحن من فضّة إلى إيران.
فاق الفشل الأميركي في العراق كلّ تصوّر، نظراً إلى أن إدارة بوش الابن لم تكن تمتلك تصوراً سياسياً واستراتيجياً واضحاً لمرحلة ما بعد إسقاط نظام صدام حسين من جهة والنتائج التي ستترتب على حلّ الجيش العراقي من جهة أخرى. لا يزال التصرّف الأميركي تجاه العراق لغزاً لا يجد من يشرح خباياه.
لم يعد سرّاً أن هذه الميليشيات الإيرانية تقف عثرة أمام اكتمال تشكيل الحكومة العراقية برئاسة عادل عبد المهدي. لم يعد من خيار آخر أمام عبد المهدي سوى اختيار فالح الفياض وزيراً للداخلية على الرغم من كلّ ما يمثله الرجل على صعيد نقل التجربة الإيرانية إلى العراق. ففالح الفيّاض هو زعيم ميليشيات «الحشد الشعبي». ليس «الحشد» سوى مجموعة من الميليشيات المذهبية تعمل لدى إيران. لعبت هذه الميليشيات دورها في كلّ ما من شأنه ترسيخ الشرخ المذهبي في العراق وصولاً إلى فرض الفيّاض وزيراً للداخلية.
كيف يمكن لزعيم مجموعة من الميليشيات ارتكبت كلّ أنواع التطهير، من منطلق شيعي – سنّي أن يكون وزيراً للداخلية؟
عندما يعترض مقتدى الصدر على توزير زعيم مجموعة من الميليشيات يصبح الرجل على حقّ. تصبح مغفورة له كلّ خطاياه بما في ذلك تلك التي ارتكبها في مرحلة معيّنة كان فيها في الحضن الإيراني. يبدو ردّ فعل مقتدى الصدر الذي تقدّم حزبه الأحزاب الأخرى في الانتخابات الأخيرة رداً سليماً. هناك رجل دين عراقي ينتمي إلى عائلة عربية شيعية بارزة استفاقت عراقيته، أي شعوره الوطني. تحوّل إلى ما يشبه حصناً أخيراً يقف في وجه تعميم تجربة «الحرس الثوري» الإيرانية كي لا تكون في العراق سلطة أخرى غير تلك التي تمثلها مؤسسات الدولة. لا يزال في العراق من يرفض أن تكون الدولة فيه تُدار من طهران.
رفض حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق المنطق الإيراني. أعلن بطريقة أو بأخرى أن العراق سيراعي مصالحه أوّلاً عندما يتعلّق الأمر بالعقوبات الأميركية المفروضة على طهران. دفع العبادي ثمن موقفه من إيران ولا يزال إلى الآن يدفع هذا الثمن في بلد تسللت فيه طهران إلى الداخل السنّي واستطاعت إيصال موالٍ لها هو محمد ريكان الحلبوسي إلى موقع رئيس مجلس النوّاب.
في غياب الاعتراض على ما تقوم به، تعتقد إيران أنّ في استطاعتها الذهاب إلى ما لا نهاية في إخضاع العراق حيث سيسهل نقل تجربتها بوجود أحزاب على رأسها شخصيات من نوع معيّن. إنّها شخصيات قاتلت مع إيران ضدّ العراق في الحرب التي دارت بين 1980 و1988 وانتهت بشبه انتصار عراقي خلق حقداً إيرانياً لا حدود له على كلّ ما هو عربي وعراقي.
أجريت الانتخابات العراقية في الثاني عشر من أيّار الماضي. لا تزال الحياة السياسية معطّلة في البلد. لا يزال العراق يبحث عن هويّة له منذ عملت إيران كلّ شيء ابتداءً من العام 2003 كي لا تعود له هويّة واضحة باستثناء هوية الجرم الذي يدور في فلك «الجمهورية الإسلامية» التي أسسها آية الله الخميني قبل تسعة وثلاثين عاماً.
يمثل العراق الصورة الأقرب إلى الواقع الذي يعيشه عدد من دول المنطقة. ما مصير اليمن بعد عمل مبعوث الأمم المتحدة كلّ ما يستطيع كي يثبت سلطة الأمر الواقع التي فرضها الحوثيون (أنصار الله) في صنعاء؟ لا يمتلك الحوثيون أيّ تصوّر لما يمكن أن تكون عليه دولة شبه حديثة فيها أطفال ومراهقون يذهبون إلى المدارس كي يتعلّموا ويتثقفوا وينهضوا ببلدهم بعيداً عن الشعارات التي تعبّر عن الفراغ والجهل والتي تنتمي إلى ثقافة الموت ونشر البؤس والمرض والجوع.
لا حاجة إلى الحديث عن سوريا ولبنان وما يعاني منه البلدان بسبب تصرفات إيران وميليشياتها. ففي لبنان لا حكومة إلى الآن على الرغم من مضي سبعة أشهر على إجراء الانتخابات وعلى الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها الرئيس المكلّف سعد الحريري من أجل أن تكون هناك حكومة وحدة وطنية. لا تزال العقدة واضحة كلّ الوضوح وهي تكشف رغبة إيرانية، عبر «حزب الله»، من أجل اختراق السنّة في لبنان عبر وزير محسوب على النهج الإيراني.. على غرار ما حصل في العراق حيث صار رئيس مجلس النواب السنّي ايرانيّ الهوى!
هناك في الوقت ذاته ترجمة على الأرض لما تسعى إليه إيران عبر ميليشياتها المذهبية التي تلعب دورها في تغيير طبيعة المجتمع السوري.
ستكون السنة 2019 سنة حاسمة في مجال معرفة ما إذا كانت إيران ستبقى تمتلك حرية استخدام ميليشياتها لتحقيق مآربها في أنحاء مختلفة من المنطقة العربية وجوارها.
ثمّة عالم في حال ضياع خصوصاً بعد كلّ ما شهدته بريطانيا وفرنسا لأسباب مرتبطة بالوضع الداخلي خاصة بكلّ من البلدين. هناك غياب أوروبي عن الشرق الأوسط والخليج عموماً. يفسّر هذا الغياب وجود أزمة داخلية بريطانية ناتجة عن الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوربي في صيف العام 2016، فيما أزمة فرنسا من نوع آخر مرتبط في جانب منه برفض الشعب الفقير أي إصلاحات تنجم عنها زيادة في الضرائب. لكنّ ذلك لا يمنع التساؤل ما الذي ستفعله إدارة دونالد ترامب التي قررت وضع حدّ للمشروع التوسّعي الإيراني؟
من اللافت أن هذه الإدارة التي تواجه بدورها صعوبات وتعقيدات على الصعيد الداخلي، بسبب تصرفات الرئيس الأميركي نفسه وتاريخه، تعرف إيران جيّداً. لديها وصف دقيق للخطر الذي يمثّله النظام الإيراني منذ قيامه في العام 1979 ولجوئه إلى احتجاز ديبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران طيلة 444 يوماً. سيتوقف الكثير على ما إذا كانت إدارة ترامب جدّية في الذهاب إلى النهاية في وضع النظام الإيراني في حجمه الحقيقي عن طريق العقوبات التي فرضتها على إيران والتي بدأ تطبيقها تدريجاً في تشرين الثاني الماضي. هل أميركا جدّية مع إيران أم لا؟ ذلك هو السؤال الكبير في 2019..