كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “الشرق الأوسط”:
رغم أن المَلَل غالبا ما يتسلَّل سريعا إلى نفوس المستمعين إذا طالَت خطبة في مناسبة معينة، إلا أن الاستماع إلى صاحب لقب “أستاذ المنابر الأول”، يكسر القاعدة. النائب والوزير السابق الذي اختار طوعا الابتعاد عن ساحة “النجمة” والتفرّغ لحرفة الكتابة الصحافية السياسية، والتي هي بعيدة في الأصل عن توجهاته العلمية، فهو يحمل إجازة في الفيزياء وقد مارس تعليم المادة العلمية في مطلع حياته المهنية.
غازي العريضي، الذي عاد، وربما رغما عنه، إلى ممارسة الدور الذي طالما ميّزه عن أقرانه في السياسة اللبنانية، وهو الحوار الذي يؤمن أنه الوسيلة الوحيدة والأنجع لمعالجة الاختلافات، بعدما اختبر مرارة المواجهات وآثارها، فوجد نفسه نتيجة “الغارة الأمنية” التي شنّها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي على بلدة الجاهلية بهدف تبليغ مذكرة قضائية إلى الوزير السابق وئام وهاب، الأمر الذي أثار حفيظة “حزب الله”، يعود إلى الواجهة وينشّط قنوات الحوار مع “حزب الله”، فيجتمع يرافقه النائب وائل أبوفاعور إلى المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل بحضور مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في الحزب الحاج وفيق صفا.
يقول العريضي حين يحدثنا عن دوره في الوساطة، إن اجتماعاته “سادتها روحية التفاهم والصراحة، فاللقاء يكتسب أهمية معينة، بسبب الظروف التي شهدها البلد، إلا أنه في إطار التنسيق، ونحن مقتنعون بضرورة الاحتكام الدائم إلى الدولة والمؤسسات، وإلى القضاء لأننا حريصون على استقرار لبنان”.
انقسام لبناني حاد
ورغم الانقسام العامودي الذي ضرب البنيان السياسي والاجتماعي في البلد، خصوصا عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، إلا أن العريضي حافظ على العلاقات الواسعة والمتشعبة التي نسجها خلال حياته السياسية، فلم ينقطع عن الاتصال أو تلقي الاتصال، حتى من الفريق الذي كان يخاصمه، ومن بين هؤلاء “حزب الله” الذي كان في “المقلب الآخر” في مواجهة قوى “السيادة والاستقلال” التي انضم إليها، لا بل قادها الحزب التقدمي الاشتراكي.
ولد العريضي في بلدة بيصور في قضاء عاليه في العام 1954، وفي العام 1972 انتسب إلى منظمة الشباب التقدمي وانتخب عضوا في مكتبها التنفيذي وممثلا لها في مجلس فرع كلية العلوم في الجامعة اللبنانية حيث كان يتابع دراسة مادة الفيزياء.
ومع اندلاع شرارة الحرب الأهلية، انتقل ليكون معتَمدا للحزب في منطقة عاليه، ومسؤولا عن الطلاب حتى العام 1980 ثم أصبح مسؤولا للعلاقات العامة في المنطقة حتى العام 1981، حيث عيّن ممثلا للحزب التقدمي الاشتراكي والحركة الوطنية اللبنانية في الجزائر حتى العام 1983.
في منتصف العام 1983 استدعاه جنبلاط إلى بيروت، ليعود ويتولى مسؤولية الاتصالات السياسية ويصبح مساعدا لأمين السر العام في الحزب، لكن التحوّل الأبرز في مسيرته السياسية والحزبية بدأت في العام 1984 عندما أسس إذاعة “صوت الجبل” واستمر في إدارتها حتى قرار إقفالها في العام 1994.
خلال تلك الفترة، برزت مواهب العريضي الكتابية والخطابية، فكانت تعليقاته السياسية اليومية تعكس بصورة خاصة موقف الحزب الذي كان منغمسا في الحرب الأهلية، لكنها كانت وبشكل خاص تعطي دفعات معنوية كبيرة للمقاتلين الذين كانوا يستمعون إلى هذه التعليقات على الجبهات، حتى أن البعض منهم غالى في ذلك بأن أصبح يبثها عبر مكبرات الصوت لكي يسمعها “الأعداء”.
أحداث بلدة “الجاهلية” الأخيرة تبرز دور العريضي الحقيقي، وهي التي تلت تصريحات وئام وهاب حين تناول الحريري بالإساءة، ليستنفر “حزب الله” دفاعا عن حليفه، وليجد العريضي نفسه وسيطا يحاول لجم النفوس الحامية.
الاقتراب من السحرة
انتخب العريضي عضوا في مجلس قيادة الحزب الاشتراكي وعيّن مسؤولا عن الإعلام المركزي قبل أن يعيّنه جنبلاط مستشارا سياسيا له في العام 1991. يعتبر العريضي أن ذلك المنصب وفّر له أعزّ الألقاب وأفضلها، “فلا سعادة النائب ولا معالي الوزير توازيان الثقة الكبيرة التي منحني إياها وليد بك بتعييني مستشارا له”، ولعله في ذلك على حق، فأن تكون قريبا من “ساحر السياسة” اللبنانية كما يقول، وأكثر السياسيين ثقافة وحنكة، يوفّر لك مدرسة قلّ نظيرها، وهذه من النعمات التي حلّت على العريضي باعترافه.
في الواقع، بدأ العريضي انطلاقا من موقعه الجديد بتولي مهمات لم تكن تسمح له ظروف الحرب الأهلية وإدارته إذاعة “صوت الجبل” توليها، فمع انتخاب رئيس للجمهورية عقب توقيع “اتفاق الطائف” وإقفال الإذاعة وانتقال البلاد إلى حياة عملية سياسية تحت إشراف مباشر من سلطة الوصاية السورية، ما سمح للعريضي بنسج شبكة علاقات ساهمت في الكثير من الأحيان، إما بمعالجة أزمات طارئة، أو حتى وصل ما انقطع من تواصل بين الفرقاء السياسيين. وإلى جانب تفرّغه إلى العمل الصحافي، كانت مقالاته تجد طريقا للنشر في مختلف الدوريات اللبنانية والعربية، وبدأت إطلالاته التلفزيونية الحوارية تكثر حتى أن المحطات المحلية كانت تتسابق للفوز بمقابلة معه نظرا لقدرته الفائقة على الحوار والإقناع، ونظرا لما يمتلكه من معلومات ومؤشرات حول مسار الأمور واتجاهاتها.
غير أن إيمان العريضي بالقضية الفلسطينية، وهي كانت ولا تزال من الثوابت الرئيسية في حياته، دفعه إلى تولي مسؤولية التنسيق مع سائر الفصائل الفلسطينية في لبنان، مع التركيز على السلطة الفلسطينية وحركة فتح، الأمر الذي ساهم لاحقا في العام الحالي إلى صدور قرار من الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمنحه الجنسية الفلسطينية تقديرا للدور الذي لعبه في الدفاع عن القضية المركزية الأم، والتي يؤكد العريضي أنها “لا تزال حية وستبقى حية طالما أن هناك أمهات ينجبن أطفالا في فلسطين”.
توازن الضعف
مع تطور العلاقة السياسية والشخصية بين جنبلاط والحريري الأب، كان من الطبيعي أن تنشأ بين العريضي والرئيس الراحل علاقة صداقة ومودة واحترام متبادل، ما دفع الحريري إلى أن يعرض على العريضي أن يكون جزءا من فريق مستشاريه، الأمر الذي تطور لاحقا عشية الانتخابات النيابية في العام 2000، حيث طلب الحريري من جنبلاط الموافقة على ترشيح العريضي على لائحته في بيروت، وهكذا دخل العريضي إلى ساحة النجمة من البوابة الأوسع.
ولم يمض شهر على الانتخابات النيابية حتى شكّل الرئيس الحريري حكومته، وسمّي العريضي وزيرا للإعلام، وكان الوحيد من بين الوزراء الذي خاض عملية إصلاح واسعة داخل أروقة الوزارة، وصرف منها العدد الفائض من المتعاقدين، غير آبه بانتمائهم الطائفي أو السياسي، حتى أن قسما كبيرا من الذين ينتمون سياسيا ومناطقيا إلى الحزب التقدمي الاشتراكي أو الطائفة الدرزية كان من بين الضحايا، وألقوا اللوم على العريضي لأنه تجاهل واقعهم.
غير أن الموقف الأهم الذي اتخذه العريضي خلال توليه وزارة الإعلام كان معارضته قرار إقفال محطة “أم تي في” التلفزيونية التي يملكها رجل الأعمال غبريال المر، شقيق وزير الداخلية ميشال المر، وهو امتنع مع الوزيرين مروان حمادة وفؤاد السعد من كتلة النائب وليد جنبلاط عن المشاركة في جلسة مجلس الوزراء، وغاب العريضي عن مكتبه في وزارة الإعلام.
وسجّل العريضي موقفا لافتا بالتوجه إلى مكاتب المحطة التلفزيونية والمشاركة في الاعتصام الذي كان يجري أمامها بحجة الاعتراض على القرار، وقال علنا إنه يحترم قرار القضاء لكنه يعترض على مضمونه الذي يحتوي على كيدية سياسية.
وتولى العريضي لاحقا وزارة الثقافة، ووزارة الإعلام مرة أخرى، ووزارة الأشغال العامة والنقل في حكومات الرئيس فؤاد السنيورة، والرئيس سعد الحريري والرئيس نجيب ميقاتي.
مع اغتيال الحريري وقيام “ثورة الأرز″ وجد العريضي نفسه في فريق “السيادة والاستقلال”، مؤيدا بشدة وصلابة التوجهات العامة المتعلقة بسيادة الدولة وحكم القانون الحرية، غير أنه كان يعارض علنا وسرا “بعض الخطوات غير المدروسة التي أقدم عليها الفريق السيادي في مواقفه من حزب الله وسوريا”، حتى أن كان من بين القلائل في ذلك الفريق الذي لم يوجه كلمة سوء أو إهانة بحق أي من الفريقين، إيمانا منه بأن “الحوار كفيل بإزالة كل الغيوم التي تعتري علاقات اللبنانيين بين بعضهم البعض، لأن البديل عن الحوار هو المواجهة وهذه مسألة مكلفة سبق أن اختبرناها ولا نريد العودة إليها” .
ولأن العريضي صاحب مواقف جريئة ولا يخجل أو يتوانى عن إبداء رأيه والاعتراض على قرارات “القيادة العليا” شهدت فترة توليه وزارة الأشغال مواجهة مع زميله في مجلس النواب عن بيروت النائب محمد قباني حول قضية مرفأ الصيادين في محلة عين المريسة. وهو الأمر الذي اعتبر فيه أن “تعليمات” من الرئيس سعد الحريري دفعت قباني إلى مواجهته، فازداد إصراره على قراره حتى وهو يعلم في قرارة نفسه أن في ذلك تهديدا لمستقبله النيابي على لائحة الحريري في الانتخابات المقررة في العام 2009، حتى أن البعض ذهب إلى حد الزعم بأن الحريري يأخذ على العريضي “موقفه الرمادي من الأزمة السورية والسياسة المحلية اللبنانية”.
وكان العريضي أصدر في مطلع العام 1990 كتيبا بعنوان “وظيفة لبنان الجديدة: من توازن الضعف إلى القوة المحدودة” بعدما بدأت المقاومة المسلحة في الجنوب اللبناني تلحق خسائر بالإسرائيليين، كانت ستؤدي حكما من وجهة نظره إلى الانسحاب من لبنان نتيجة هذه القوة، رغم محدوديتها، إلا أنها كانت أكبر من قدرة المحتل على الاحتمال.
“اتفاق الطائف” وإقفال إذاعة “صوت الجبل” وانتقال البلاد إلى حياة عملية سياسية تحت إشراف السوريين، عوامل سمحت للعريضي ببناء شبكة علاقات ساهمت بمعالجة أزمات طارئة ووصل ما انقطع بين الفرقاء السياسيين.الثمن الكبير للدور الصغير
كتابه “كلمات الزمن الصعب” الذي صدر في أربعة أجزاء، تضمّن كل تعليقاته السياسية التي كان يبثها عبر إذاعة “صوت الجبل”، ثم تلاه كتيب “في زيارة البابا إلى لبنان والإرشاد الرسولي”، وكتيب “خمسون عاما من الاغتصاب والإرهاب”، ثم كتاب “لبنان الثمن الكبير للدور الصغير” الذي يتضمن قراءات سياسية للوضع السياسي في لبنان والمنطقة ودور لبنان في المرحلة المقبلة.
وبعدما شكّل العريضي المعادلة الثابتة في تمثيل كتلة جنبلاط في الحكومات المتعاقبة منذ العام 2002، توقفت هذه المعادلة في العام 2013 ولم يعد بعدها العريضي إلى الحكومات، ما أوحى للكثيرين بأن أهميته بدأت بالتراجع لدى جنبلاط، خصوصا مع بدء مرحلة تحضير الشاب تيمور لدخول المعترك السياسي، حيث حاول الكثيرون الترويج لغياب “الكيمياء” بين جنبلاط الابن والعريضي، وهذه محاولات لم تدفع العريضي حتى إلى محاولة نفيها “إذ أن الأيام كفيلة بالإجابة” وهذا فعلا ما حصل.
لم تتوقف إصدارات العريضي في تلك الفترة، فقد أصدر كتاب “إدارة الإرهاب” أتبعه بكتاب “فلسطين حق لن يموت” ثم “عرب بلا قضية”، و”العرب بين التغيير والفوضى”، و”إسرائيل إلى الأقصى”، و”عولمة الفوضى”، و”من بلفور إلى ترامب” قبل أن يصدر في الشهر الحالي كتاب “الانهيار العربي”.
وكان العريضي قد فاجأ جنبلاط في اجتماع لمجلس قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي عشية الانتخابات النيابية التي كان من المقرر إجراؤها في العام 2014 بقراره عدم الترشح إليها، ما زاد من حملة الشائعات التي طالته، لكنه كان مقتنعا بأن الوقت حان بالنسبة إليه للتفرّغ أكثر إلى الكتابة من العمل السياسي اليومي والمراجعات المرهقة وأن الوقت حان كما يقول “لكي أرتاح بعد الخدمة الإجبارية منذ العام 1975″.
ومع أحداث “الجاهلية” الشوفية بعد تصريحات وهاب التي تناول فيها الحريري بالإساءة البالغة، توترت الأجواء في الجبل، عقب احتجاج أنصار وهاب وإطلاق الرصاص على دورية المعلومات التي جاءت تبلغه، فاستنفر “حزب الله” دفاعا عن وهاب، ووجد العريضي نفسه مجددا، وسيطا في محاولة لجم “النفوس الحامية”، وتهدئة الأوضاع لعدم الذهاب في المواجهة بعيدا ما “يؤثر على الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي في البلد بأكمله”، وهذا أمر صحيح، إذ ما من جدوى من تغذية احتقان سني–درزي كان البعض يعمل جاهداً على إثارته.