كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
لم يكن «حزب الله» يناور عندما قال إنه بذل جهوداً لمنع اندلاع الفتنة بعد حادثة الجاهلية. ففي الواقع، ربما هو لا يمانع في زيادة الضغط على عون والحريري وجنبلاط في ملف الحكومة، وهو لا يرى ضرراً في استثمار الضغط الذي ولَّدته الحادثة في الاتّجاه الذي يناسبه، لكنه على الأرجح لا يريدها كما جرت، ولا يرى مصلحةً في انفجارٍ أمنيّ قد يحرق الجميع وكل شيء.
ثمّة إقتناع في الأوساط المتابعة لحراك «حزب الله» بأنه اليوم، وإذ يعمل للحصول على أكبر نفوذ في السلطة، فهو يحرص على أن يتمّ ذلك من دون أيِّ توتير أمني.
ويقول البعض إنّ «الحزب»، وإن يكن يعمل لتأمين أكبر المصالح له في تركيبة الحكومة المقبلة، فهو لا يريد أن يحسم الملف بالطريقة التي اعتمدها في بعض المراحل، أي بممارسة الضغوط الميدانية أو الأمنية.
وفي رأي هؤلاء، لو أراد «الحزب» ذلك لما انتظر حتى اليوم. فالوقت لا يناسبه لكي يكرّر 7 أيار، أمنياً، لأنّ الظروف الحالية مختلفة عمّا كانت عليه في العام 2008:
في الداخل، كل التركيبة السياسية مناسبة له: رئيس الجمهورية حليفٌ له، ورئيس الحكومة يوافق على تسوية لا يثير فيها ملفَّ السلاح، والخصوم الآخرون يسعون إلى «التعايش» معه. ولذلك لا داعي لـ«العمليات القيصرية».
لكنّ الأهم هو انشغالات «الحزب» وهواجسُه إقليمياً ودولياً. فهو غارقٌ في حروب سوريا والعراق واليمن، ويواجه الاستحقاق الأكبر، استحقاق العقوبات الأميركية الآخذة في التصعيد، عليه وعلى إيران. ولأنّ العيون مفتوحة عليه، فهو لا يستطيع اللجوء إلى المغامرات الأمنية داخلياً وإعطاء الأميركيين ذريعةً إضافية في ما يتعلق بسلوكه.
هذه المعطيات تدفع «حزب الله» إلى التزام أقصى درجات «الانضباط» في تعاطيه مع الملفات الداخلية. ولذلك، هو يقف عند نقطة حساسة جداً بين اتّجاهين متناقضين. ويقال إنه يستخدم نظرية الجرعات الدوائية، أي إنه يستخدم الضغوط لبلوغ أهدافه، ولكن ضمن جرعات محدّدة.
فالدواءُ الذي يكون شافياً ضمن حدود مضبوطة يصبح قاتلاً إذا تجاوز الجرعات المسموح بها. وهكذا، فإنّ «الحزب» يمارس الضغوط الكافية لتحصيل أكبر مقدار من النفوذ، ولكنه يخسر إذا رفع مستوى الضغوط إلى حدّ إسقاط التسوية السياسية التي تحميه منذ أن جاء الثنائي عون – الحريري إلى الحكم في 2016.
ولذلك، يريد «الحزب» انتزاع «الثلث المعطّل» من فريق رئيس الجمهورية من دون أن يفقد ثقته. ويريد مشاركة رئيس الحكومة تمثيله السنّي من دون إحراجه وإخراجه من رئاسة الحكومة.
ويريد الحفاظ على علاقة طيّبة مع النائب وليد جنبلاط بحيث يكون هناك فصلٌ واضحٌ بين جنبلاط الذي يقيم علاقاتٍ طبيعية مع «الحزب» وإيران… وجنبلاط العدو الذي لا يهادن الأسد.
وهذا الفصل في موقف جنبلاط يمكن أن يطرح إشكالية يبدو أنها ستزداد أهمية في المرحلة المقبلة، وهي: إلى أيِّ حدٍّ سيكون «الحزب» مرتاحاً في خصوصية العلاقة التي تربطه بكل من إيران وسوريا في وقت واحد؟ وفي معنى آخر، هل تتظهَّر في المرحلة المقبلة تباينات أو تمايزات، داخل فريق 8 آذار، على قاعدة الأولوية لمَن في لبنان: طهران أم دمشق؟
عام 2005، عندما انسحب السوريون من لبنان، أطلق الفريق بكامله عنواناً واحداً هو: «تصحيح الخطأ» الذي وقع في نيسان ذلك العام وإعادة لبنان إلى دائرة النفوذ السوري. ولكن، بعد اندلاع حروب «الربيع العربي» واهتزاز سوريا بدءاً من 2011، أخذ الإيرانيون دوراً ريادياً في حماية الأسد نفسه، وباتت لهم الأولوية إلى حدّ أنّ الأسد بات لاعباً في المنظومة الإيرانية.
إلّا أنّ هذا المُعطى تبدَّل بدءاً من العام 2015، عندما تدخّلت روسيا لإنقاذ الأسد من سقوطٍ محتمَل. فقد ظهر اللاعب الروسي صاحب الكلمة الفصل على الخريطة السورية.
وعقد إتفاقاتٍ تكرّس هذا الدور مع الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية. وهذا التوسّع في الدور تمّ على حساب إيران.
وثمّة مصالح مشترَكة متعددة بين الحليفين، موسكو وطهران. فالإيرانيون يعرفون أنّ روسيا تبقى حليفَهم الأول، خصوصاً في مواجهة العقوبات الأميركية، والمتنفّس الأساسي لتصدير النفط والغاز، بمساعدة تركيا والصين.
لكنهم أيضاً لا يريدون أن يسلّموا كل أوراقهم إلى فلاديمير بوتين، خصوصاً في سوريا حيث عملوا لسنوات من خلال «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» و«حزب الله» وتنظيمات أخرى وتكبّدوا خسائر فادحة للحفاظ على نظام الأسد وتأمين الجسر الذي يربط طهران ببيروت، مروراً ببغداد ودمشق.
لا يريد الإيرانيون أن يخسروا «الإمبراطورية» التي أسّسوها خلال حروب سوريا والعراق واليمن. لكنّ بوتين استطاع أن يحظى بغطاءٍ إقليميٍّ ودوليّ لوجوده في سوريا، وهو ما لم تستطع طهران تأمينَه لنفسها. ولذلك، هي اليوم تحاول إقامة تفاهم بين حدود دورها والدور الروسي في سوريا.
وقد جاء التدخل الروسي أخيراً لإنجاز تسوية تُبعِد الإيرانيين إلى مسافة تفوق الـ100 كيلومتر عن الحدود مع إسرائيل في الجولان، ليكرّس أولوية المرجعية الروسية على حساب إيران في سوريا. وهذا ما يترك تداعياتِه على موقع الأسد ودوره والتوازن الذي يقيمه بين حليفيه، روسيا وإيران.
وليس سرّاً أنّ الأسد تلقّى عروضاً من دولٍ عربية للتخلي عن ارتباطه بطهران مقابل تسوية تسمح له بالاستمرار في السلطة على مدى فترة معيّنة. كما أنّ قوى دولية عدّة شجعته على التخلّي عن إيران شرطاً لطبيع العلاقات مع نظامه.
لكنّ الأسد يعرف أن لا مجال حالياً لفكّ الارتباط بحليفٍ يدعمه عضوياً، خصوصاً في المواجهة البرّية، فيما الروس يتكفّلون بالدعم الجوي. لكنّ ذلك لا ينفي قلق إيران من أن تقود الاتفاقات التي يبرمها الروس مع القوى الإقليمية، ومنها تركيا، إلى قطع الجسر الذي عملت لبنائه، والذي تبدو سوريا معبراً حيوياً فيه.
وهذا الوضع ينعكس أيضاً على التوازنات السياسية الداخلية في دول الجوار السوري كالعراق ولبنان، ويشكّل تحدّياً للقوى الحليفة لإيران وسوريا على حدٍّ سواء، وفي طليعتها «حزب الله». فهل ما زال «حزب الله» يقاتل فعلاً لـ«تصحيح خطأ» 2005 وإعادة لبنان إلى دائرة النفوذ السوري، أم إنه بات اليوم يفضِّل إدخالَ لبنان وسوريا معاً في دائرة النفوذ الإيراني؟
وتالياً، هل تتمايز مصالح القوى في محور «حزب الله» و8 آذار، بين سوريا وإيران، أو تتضارب؟ وهل إنّ التعاطي الهادئ الذي يعتمده «الحزب» إزاء بعض الملفات الداخلية يؤشّر إلى رغبة إيرانية في التهدئة، مقابل رغبة سورية في التصعيد لإثبات الوجود والقول «إنّ دورنا قد عاد»؟
وتالياً، هل إنّ ما يجري في الجاهلية وقبلها وبعدها من ردود فعل انطوت جزئياً على تمايز بين النظرتين السورية والإيرانية في مقاربة التحديات اللبنانية؟
ثمّة مَن يعتقد أنّ الأمور ستسلك اتجاهاً أكثرَ وضوحاً في الأشهر المقبلة، في موازاة تطورات حاسمة مرتقبة محلياً وإقليمياً.