كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
إذا «قَلَّعت» الحكومة بمجرّد أن يتنازل رئيس الجمهورية عن السنّي من حصته لمصلحة سنّي حليف لـ»حزب الله»، فهذا يعني أمراً واحداً ووحيداً، هو أنّ العقدة الحكومية كانت – على الأقل – منذ شهرين، أزمة ثقة داخل محور الحلفاء: عون و»حزب الله». ولهذا الأمر مدلولات سياسية مهمّة.
أساساً، يعرف كثيرون أنّ الرئيس ميشال عون لم يكن المرشح المفضَّل لدى «حزب الله» لرئاسة الجمهورية. ويعرف هؤلاء أيضاً أنّ الشغور في موقع الرئاسة لنحو عامين ونصف العام لم يكن نتيجة النزاع بين 8 و14 آذار على الرئاسة، بل أيضاً نتيجة نزاع داخل 8 آذار نفسها.
المطّلعون يقولون: كان «حزب الله»- ضمناً- يفضّل إمّا رئيساً من فئة «الوسطيين» الذين لا تمثيل شعبيّاً لهم على الإطلاق، وإمّا رئيساً للجمهورية من «صُلب» الفريق العتيق الذي عملَ معه طويلاً في الفترة السورية، والذي يَمون عليه مباشرة وبقوة، وإن كان لا يمثّل قاعدة شعبية مسيحية عريضة.
وفي الحالتين، هو لا يريد رئيساً يستطيع أن يشكّل حالة خاصة في أي لحظة، خصوصاً إذا شاءت الظروف السياسية أن تمنح الرئيس فرصة ليتمتّع بهامش معيّن من الاستقلالية.
لذلك، طرحت القوى الحليفة لـ»حزب الله» في الدرجة الأولى خيار «الوسطي». وعندما أصَرّ عون وسائر القادة الموارنة على أن يكون الرئيس واحداً منهم، يمتلك حَيثية في بيئته، تمّ اختيار رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، لا عون. وقد طالت الأزمة عند هذا الحدّ، ولم يستطع عون فَرض نفسه في موقع الرئاسة إلّا بعدما لَوّح بفَرط التحالف مع «الحزب»، واستَحصلَ على دعم الخصم المسيحي التاريخي، الدكتور سمير جعجع.
إذاً، ما حدث هو أنّ عون استطاع أن يفرض نفسه خياراً اضطرارياً لـ«الحزب»، لا يمكن تجاوزه. وبقيَ الرئيس نبيه بري- شريك «الحزب» في الثنائي الشيعي- رافضاً هذا الخيار حتى اللحظة الأخيرة. وكان واضحاً أنّ موافقة «الحزب» على عون تمّت على مَضض. فالحزب الشيعي لم يكن مستعداً لتحَمُّل «الزعَل» والغضب من الحليف الماروني الذي سلَّفه كثيراً، ودفع الأثمان السياسية لكي يوفّر له التغطية الوطنية في أحلك الظروف منذ 2006.
لا يعني ذلك أنّ «الحزب» لا يَثق بعون، فالحليف الماروني لم يخطئ مرّة مع حليفه. بل إنّ «الحزب» يفضّل أن يتعاطى، في موقع المسؤولية الرسمية، مع شخص اختبَره لفترات طويلة ويستمع إلى طلباته وينفّذها مباشرة، ولا تكون له مطالبه الخاصة ولا حيثيّته التي يتباهى بها على الجميع، والنماذج المقصودة معروفة.
وفعلاً، يقول أصحاب هذا الكلام، حصلَ ما كان «الحزب» يتوقّعه من عَثرات مع الرئيس وفريقه السياسي:
-1 لقد تصادمَ وزراء عون ووزراء «الحزب» في مجلس الوزراء غالباً، حول كثير من الملفات. وفي المقابل، كان فريق رئيس الجمهورية متفاهماً دائماً مع فريق رئيس الحكومة وينسّق معه كل المواجهات.
-2 أشعلَ عون وفريقه السياسي معارك قاسية مع شريك «الحزب» في الثنائي الشيعي، الرئيس نبيه بري. وقد وقفَ «الحزب» إلى جانب رئيس المجلس، وإن أظهرَ ميلاً علنياً إلى الاضطلاع بدور «وسيط الخير».
-3 في الانتخابات النيابية، حصلت صدامات واضحة بين فريق عون و«الحزب» على مستوى الخيارات التحالفية. وفي جبيل أبرز النماذج.
كلّ هذه التجارب دفعت «الحزب» إلى التفكير ملياً في «ضمان» تركيبة الحكومة المقبلة، والأرجح أنه درس كل الاحتمالات التي يمكن أن تشهدها السنوات الأربع التي هي عمر الحكومة المقبلة، وعمر العهد والمجلس النيابي في الوقت عينه.
في ربيع العام 2022، ستنتهي ولاية المجلس النيابي، ومعه تنتهي ولاية الحكومة المنتظرة اليوم. وبعد أشهر، تنتهي ولاية رئيس الجمهورية وهذه الحكومة ليأتي رئيس جديد، ومعه حكومة جديدة.
وستكون السنوات الأربع حافلة بالاستحقاقات الداخلية والإقليمية والدولية، إذ يمكن أن تَرتَسِم معالم التسويات الكبرى في الشرق الأوسط ما ينعكس على لبنان. ثم، في العام 2022، ستنشأ سلطة جديدة كاملة.
وفي هذه الحال، سيكون مطروحاً: هل سيتم اعتماد قانون الانتخاب الحالي لإنتاج المجلس الذي سينتخب الرئيس الجديد وحكومته؟ أم سيبقى القانون الذي تم اعتماده في أيار الفائت بلا تعديل؟ وأي نتائج يمكن أن تُسْفِر عنها الانتخابات وفقاً لهذا القانون: هل ستعيد إنتاج مجلس 2018 مثلاً؟
والإجابات عن هذه الأسئلة تبدو حيوية لمعرفة كيف سيتم رسم موازين القوى الداخلية في المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ العهد الحالي يحضِّر الوزير جبران باسيل ليكون المرشّح الأقوى على «رأس السبق»، كما قال عون قبل أشهر. فهل يجدّد «حزب الله» دعم عون، من خلال باسيل، للحصول على تغطية المسيحي الأكثر تمثيلاً شعبياً، أم يختار مارونياً أكثر اختبره لمدّة طويلة في دائرة التحالف القديمة؟
من الصعب أن يتوقع أي محلِّل كيف ستكون المعادلات السياسية في ذلك الحين، وأي قوة ستكون لـ«حزب الله» في الشرق الأوسط الواقع على خط الزلازل. لكنّ المؤكد هو أنّ «الحزب» يَحتاط لكل الاحتمالات. ولذلك، هو يحرص على أن يكون قوياً بما فيه الكفاية، بحيث لا يُفاجَأ بأيّ مغامرة من أي نوع كانت.
إذاً، ضمن هذا المنظار، يمكن فَهْمُ إصرار «حزب الله» على تعطيل «الثلث المعطّل» من يد عون… علماً أنّ الضربة مزدوجة، لأنها ستؤدي إلى خرق الاحتكار السنّي الذي حاول الرئيس سعد الحريري أن يتمسك به.
ولكن، بالنسبة إلى «حزب الله»، لا تكمن المسألة في عدم الثقة بعون. فلو كان الأمر كذلك لَما وافق على وصوله إلى الرئاسة تحت أي ظرف. بل تكمن المسألة في «قَصقصَة الجوانح». فـ«الحزب» يتجنّب إعطاء أيّ طرفٍ قدرةً للتحكّم بالحكومة وقراراتها في المرحلة المقبلة. والوحيد الذي لا يستطيع «ضَبطه» هو رئيس الحكومة، الذي يمنحه الدستور القدرة على إسقاط الحكومة أو تعطيلها بالاستقالة.
وفي أي حال، يمكن لـ«الحزب» أن يراهن على «الفَرملة السياسية» لأيّ مَسعى قد يقوم به الحريري في هذا الاتجاه، علماً أنّ الرجل لا يبدو مُغرماً بتجارب الإستقالة، بعد تجربة خريف 2017. فـ«الحزب»، الذي اعتاد أن يرسم الخطط والخطط البديلة، لن يترك في الحكومة باباً مفتوحاً للمغامرات.