كتب إميل أمين في صحيفة “الشرق الأوسط”:
مرة واحدة وعلى خلاف تصريحات مستشاره للأمن القومي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا، وحجته في هذا القرار المفاجئ أن المهمة اكتملت بالقضاء على «داعش» في سوريا والعراق وتطهير الأراضي التي تم احتلالها من قبله الأعوام الماضية.
المعلومات المتاحة حول مشهد الانسحاب قليلة في واقع الأمر، سيما أن المتحدثة باسم البنتاغون دانا وايت قد أشارت إلى أنه لأسباب تتعلق بحماية القوات الأميركية على الأرض وبالعمليات هناك لن تقدم مزيداً من البيانات الأمر الذي لا يتيح للمحللين المهتمين بالشأن الأميركي إلا محاولة قراءة ما بين السطور وربط الأحداث والأزمنة بالأهداف والاستراتيجيات الأميركية الأبعد والأعمق، وما يليق بدولة إمبراطورية وقوة عظمى لها حساباتها الاستشرافية في عالم تتحرك فيها الخطوط الجيوبوليتكية، وتتقاطع فيه الخيوط الجيواستراتيجية، بشكل وسرعة تتعب معهما الأجسام والعقول.
بداية ينبغي الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي دستورياً له الحق في إصدار توجيه رئاسي يتيح له سحب قوات بلاده في الخارج، ولهذا فإن القرار من الناحية التشريعية لا تشوبه شائبة، لكن السؤال الذي طرحه الأميركيون من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء… هل هذا التوقيت ملائم لاتخاذ مثل هكذا قرار حيوي ومصيري، وما هي حسابات الأرباح وأكلاف الخسائر من ورائه؟
قبل ثلاثة أشهر على وجه الدقة تحدث جون بولتون مستشار الرئيس ترمب للأمن القومي عن بقاء الولايات المتحدة إلى أجل غير مسمى في سوريا، وذلك إلى أن تخرج القوات الإيرانية من هناك، الأمر الذي يعني بقاء عدد القوات الأميركية ومعداتها عبر ثلاث عشرة قاعدة عسكرية في شمال شرقي سوريا تحديداً.
كان من الطبيعي أن يذهب الديمقراطيون إلى انتقاد القرار، إذ اعتبرته نانسي بيلوسي زعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب سابقاً لأوانه، ووصفته بأنه مشبوه، سيما أنه جاء بعد يوم واحد من تأجيل الحكم على الجنرال مايكل فلين الذي ارتبط اسمه بقصية «روسيا – غيت»، ما يطرح تساؤلاً بعينه هل للقرار انعكاسات تخدم موقف الرئيس ترمب في القضية؟
على أن غير الطبيعي أن ينتقد مشرعون في الكونغرس من الحزب الجمهوري، ومن الأوزان الثقيلة مثل السيناتور ليندسي غراهام ونظيره ماركو روبيو القرار ويعتبروه فرصة لعودة الدواعش من الشباك بعد أن تم دحرهم عبر الأبواب.
السؤال المطروح الساعة من الحلفاء المقربين لواشنطن سواء في لندن أو باريس… هل تم القضاء المبرم بالفعل على تنظيم «داعش» وعليه يمكن للرئيس ترمب أن يغادر بعيداً بقواته؟
يحاجج وزير الدفاع البريطاني بأن هزيمة «داعش» لم تكتمل، وأن هناك فرصة كبيرة بالفعل لأن تعود الخلايا النائمة للظهور من جديد، والأمر نفسه تراه دوائر الإليزيه في فرنسا. أما الحلفاء لا سيما من قوات سوريا الديمقراطية، فيرون الأمر بوصفه خيانة وطعنة في الظهر من قبل القوات الأميركية، والتي تجعل ظهرهم مكشوفاً لقوات الأسد من جهة، ولتحركات الرئيس التركي إردوغان من جهة ثانية.
مخاوف الأميركيين في الداخل والحلفاء في الخارج مردها أن يكون الجميع أمام رجع صدى لقرار الرئيس السابق باراك أوباما الخاص بسحب القوات الأميركية من العراق، وقد كان من تبعاته فتح الطريق واسعاً أمام الجماعات الإرهابية لتعيث فساداً في بلاد الرافدين، وليمتد شرها إلى دول الجوار ومن هنا كان نشوء وارتقاء دولة الخلافة المزعومة.
هل لدى الرئيس ترمب مخطط آخر مستقبلي لم يعلن عنه وقد يكون هو السبب المباشر في اتخاذ هذا القرار؟
الجواب أكثر إثارة سيما إذا نظرنا في التبعات التي ستلحق بالوجود والنفوذ الأميركي في المنطقة، والبداية من عند إطلاق يد «حلف الشرق» إن جازت التسمية في أرجاء العراق وسوريا تحديداً، وبناة الحلف هم تركيا وإيران وروسيا، وذلك بعد أن يبقى المشهد فضاء استراتيجياً جديداً للثعلب الروسي تحديداً، والمؤكد أنهم سيرسمون المنطقة بما يتساوق واستراتيجياتهم في غياب العم سام.
الجزئية الأخرى تتصل ومن جديد بقضية الموثوقية في التحالف مع واشنطن، الأمر الذي أشار إليه الأكراد مؤخراً وسيبلغ صوتهم ولا شك للقاصي والداني في منطقة مشتعلة على هذا النحو، وسيعيد التساؤل المطروح من فترة وبقوة: هل فقد الشرق الأوسط جاذبيته للولايات المتحدة وها هي تنسحب منه رويداً رويداً؟
في المشهد علاقة معقدة بتركيا وبقضية «روسيا – غيت» تحديداً، أما تركيا فعدة تحليلات تذهب إلى أن ترمب يعمل جاهداً على إعادة تركيا إلى حظيرة حلف الأطلسي، وفض الشراكة المتنامية بين أنقرة وموسكو، وقد تبدى ذلك في الموافقة على تزويد الأتراك بصفقة الصواريخ الأميركية الأخيرة، علها تثني إردوغان عن «إس 400» الروسية القاتلة لطائرات الأطلسي، وتالياً إفساد مخططات بوتين الشرق أوسطية، ما يخلق نظرة بعيدة في عيون الأميركيين قوامها أن ترمب لا صديق ولا حليف الرئيس الروسي، وعلى أمل تخفيف الضغوطات عليه في الداخل.
لكن التفكير على هذا النحو يهمل أمراً جللاً وهو أنه بانسحاب القوات الأميركية من سوريا يتيح المجال لإيران العدو الأكبر والداعم الأول للإرهاب في العالم بحسب مايك بومبيو وزير الخارجية لأن تخلق ممراً لوجيستياً عبر العراق وسوريا إلى لبنان، وتعزيز وكلائها الميليشياويين لا سيما «حزب الله» في جنوب لبنان، ومن ثم بسط نفوذها بصورة غير مسبوقة على المنطقة، فهل هذا ما تريده إدارة تسعى لمحاربة الإرهاب وتنظم الاستراتيجيات لمجابهته صباح مساء كل يوم؟
الانسحاب الأميركي في شقه السياسي يفيد بأن الأميركيين غير عابئين بالمستقبل السياسي للملف السوري، وهم غير مقدرين مخاوف العالم من عودة الإرهاب الداعشي، ويفتح الباب لسطوة الملالي، فيما الأسوأ احتمالاً تعريض المنطقة برمتها لحرب إقليمية كبرى بين الأطراف المتصارعة في ظل الغياب الأميركي المتعمد.